قيام الخلافة الأموية وتطورها
قامت الخلافة الأموية رسميا في شهر ربيع الأول من سنة 41هـ، بعد أن تنازل الحسن بن علي بن أبى طالب -رضى الله عنه -عن الخلافة لمعاوية بن أبى سفيان -رضى الله عنه- وبايعه هو وأخوه الحسين، وتبعهما الناس في الكوفة، وأصبح بذلك معاوية خليفة للمسلمين وحده، ولُقِّب بأمير المؤمنين، وكان قبل ذلك يلقَّب بالأمير فقط. واستبشر المسلمون خيرًا بهذا التطور، وحمدوا الله - تعالي - علي انتهاء الفتن والحروب، وسمُّوا ذلك العام عام الجماعة؛ حيث عادت إلي الأمة الإسلامية وحدتها، واجتمع شملها علي خليفة واحد، بعد الفرقة والنزاع، ولقي ما فعله الحسن بن علي كل تقدير وإجلال من جمهور المسلمين، وأثنى عليه كثير من العلماء، ورأوا فيما أقدم عليه تحقيقًا لنبوءة جده محمد حين قال: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين - صحيح البخاري
تطور نظام الخلافة في العصر الأموي
عرفنا فيما سبق كيف قامت الخلافة الإسلامية عقب وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم وكيف كان يتم اختيار الخليفة في دولة الراشدين بالبيعة المباشرة من المسلمين لخليفتهم، بعد أن يرشحه عدد من الصحابة، كما حدث في خلافة الصديق، حيث بايعه عدد من الصحابة في سقيفة بنى ساعدة بيعة خاصة، كانت بمثابة ترشيح له لمنصب الخلافة، ثم جاءت البيعة العامة له في مسجد الرسول صلي الله عليه وسلم - بعد مواراة جسده الطاهر تحت الثرى لتزكى ذلك الترشيح وتوافق عليه، ومن ثم أصبح أبوبكر الصديق أول خليفة لرسول الله صلي الله عليه وسلم في حكم الدولة الإسلامية، باختيار حُر من المسلمين. وعندما مرض أبوبكر -رضى الله عنه - مرض الموت قال للمسلمين: إنه قد نزل بي ما ترون - يعنى المرض الشديد - ولا أظنني إلا ميِّتًا لما بي من المرض، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحلَّ عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة منِّى كان أجدر ألا تختلفوا بعدى. وتصرُّف أبى بكر الصديق دليل ساطع وبرهان قوى علي أن اختيار الحاكم من حق الأمة وحدها، لكن الصحابة فوضوه في اختيار خلف له، وألحُّوا عليه في ذلك، فقبل تكليفهم، ووقع اختياره علي عمر بن الخطاب -رضى الله عنه - لكفاءته وقدرته وسابقته في الإسلام، ولم يكتفِ الصديق باختياره هو لعمر بن الخطاب، بل استطلع آراء كبار الصحابة حول مرشحه، مع أنه مفوض من الصحابة في اختيار خليفة لهم، ويعلم بأن عمر هو أفضل الصحابة بعده، و أصلحهم لتولي الخلافة، لكنه آثر ألا ينفرد وحده باختيار خليفة له. ولما اطمأنت نفسه إلي أن الغالبية ممن شاورهم تؤيد اختيار عمر، جمع الناس حوله، وحدَّثهم قائلا: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإني والله ما آلوت من جهد الرأي، ولا ولَّيت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا
ولم تنعقد بيعة عمر ليصبح خليفة إلا بعد وفاة أبى بكر، وبمبايعة الناس له بيعة عامة، ولو لم يرضَ الناس بترشيح أبى بكر، ورفضوا مبايعة عمر، ما كان لعهد أبى بكر الصديق عليهم حجة أو سلطان
وجاء اختيار عثمان بن عفان - رضى الله عنه - ببيعة عامة حرَّة من بين الستة الذين رشحهم عمر بن الخطاب -رضى الله عنه - ليختاروا واحدًا منهم، وقد حصرها فيهم؛ لأنهم بقية العشرة المبشرين بالجنة، والذين تُوفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ
ولما قُتل عثمان بن عفان شهيدًا، ألحَّ الصحابة علي علي بن أبى طالب أن يقبل الخلافة، بعد أن سادت الفوضى مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وامتنع كبار الصحابة عن قبول الخلافة، فقبل علي الخلافة؛ لينقذ الأمة من الفتن، وبايعه معظمهم، ولا جدال في أن قيام علي بالأمر في ذلك الوقت العصيب كان تضحية تنطوي علي شجاعة حيث تحمل المسئولية في أصعب الظروف وأدقها. وكان متوقعًا أن تنهي بيعته بالخلافة حالة الفوضى التي سادت البلاد بعد مقتل عثمان، لكن الأحداث تطورت سريعًا من سيئ إلي أسوأ، وانتهي به الحال أن قُتل شهيدًا، وقبل وفاته استشاره أصحابه في بيعة ابنه الحسن بعده، فقال لهم: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر، لكنهم بايعوا الحسن، الذي تنازل عن الخلافة لمعاوية كما ذكرنا
وخلاصة ما سبق أن طريقة اختيار الخليفة في عهد الراشدين كانت تتم ببيعة حرة وعامة بعد ترشيح شخص أو أكثر، وأن ترشيح الخليفة السابق لم يكن ملزمًا للأمة، بل لها أن توافق أو تعترض، وهذا هو نظام الشورى في الإسلام الذي يشبه في مصطلحات العصر الحديث النظام الديمقراطي. ولم يفكر أي واحد من الخلفاء الراشدين في أن يعهد بالأمر إلي أحد من أبنائه أو أقربائه، حرصًا منهم علي إبعاد فكرة الوراثة عن نظام الحكم الإسلامي إبعادًا تاما، وقد وضَّح أبوبكر الصديق هذا المعنى عندما رشَّح عمر في قوله: أترضون بمن أستخلف عليكم ؟ فإني والله ما آلوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، كما استبعد عمر بن الخطاب ابنه عبد الله تمامًا من الترشيح، بل استبعد ابن عمه سعيد بن زيد أيضًا من الترشيح مع أهل الشورى؛ دفعًا لشبهة القرابة مع أن الشروط تنطبق عليه.ولم يُؤثَر عن عثمان شيء من ذلك، وترك علي بن أبى طالب الأمر للأمة لاختيار من ترضاه، ورفض ترشيح ابنه الحسن للخلافة أو الوصاية له بالبيعة
أسلوب اختيار الخليفة الأموي
لم يكن أحد يظن أن بيعة المسلمين لمعاوية بن أبى سفيان ستكون إيذانًا بتأسيس دولة أموية وراثية وكان المسلمون قد استبشروا خيرًا بهذه البيعة بعد فترة من الفتن والحروب، حتى إن بعض الصحابة الذين كانوا قد توقفوا في بيعة علي - رضى الله عنه - بايعوا معاوية، دعمًا لوحدة الأُمة ولمِّ شملها، مثل: سعد بن أبى وقاص عبد الله بن عمر. وربما توقَّع الناس أن معاوية سيحذو حذو من سبقه من الخلفاء الراشدين ويترك الأمر شورى للمسلمين، يختارون للخلافة من بعده من يرونه أهلا لتولي تبعات هذا المنصب الجليل، أو سيجتهد في اختيار شخص يراه أصلح الناس لتولي منصب الخلافة، ويكون بعيدًا عن قرابته كما فعل الخلفاء قبله، لكن معاوية فاجأ الأمة الإسلامية بترشيح ابنه يزيد للخلافة من بعده، وبدأ في أخذ البيعة له في حياته، بدعم من أهل الشام، ولما نجح في ذلك لم يكن صعبًا عليه أن ينتزع البيعة لابنه من بقية الأقطار الإسلامية، بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى. ولم يعارض معاوية في خطواته هذه سوى أهل الحجاز، الذين رأوا في عمله خروجًا علي ما ألفه المسلمون في اختيار خليفتهم ببيعة حرة قائمة علي الشورى، وتركزت المعارضة في ثلاثة من أبناء كبار الصحابة، هم الحسين بن علي بن أبى طالب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر. وقد تطورت معارضة الأولين إلي خروج الحسين علي يزيد بعد موت معاوية، واستشهاده في موقعة كربلاء المشهورة سنة 61هـ، وإلي دعوة عبد الله بن الزبير بالخلافة لنفسه بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64ه، ثم دخوله في صراع مع الأمويين، انتهي بمقتله سنة 73ه، بعد أن دامت خلافته تسع سنوات، أمَّا عبد الله بن عمر، فقد بايع يزيد حفاظًا علي وحدة المسلمين، بعد أن رأي أن استمراره في معارضته لن يكون في مصلحة الأمة الإسلامية
وقد دافع عن عمل معاوية كثير من المؤرخين، و رأوا في صنيعه عملا ضروريا للحفاظ علي وحدة الأمة، واجتناب العودة إلي الحروب الأهلية، ويقف علي رأس هذا الفريق المؤرخ الكبير عبد الرحمن بن خلدون مؤيِّدًا إقدام معاوية علي هذه الخطوة بقوله: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم، باتفاق أهل الحل والعقد حينئذٍ من بنى أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش -أي أكثرهم قوة- وأهل الحل أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولي بها، وعدل عن الفاضل إلي المفضول؛ حرصًا علي الاتفاق واجتماع الأهواء، الذي شأنه أهم عند الشارع، لا يظن بمعاوية غير هذا، فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عليه، دليلٌ علي انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم أجلُّ من ذلك وعدالتهم مانعة. ويدعم ابن خلدون رأيه هذا بأن ولاية العهد من الخليفة القائم إلي شخص يتولى الخلافة بعده أمر جائز لا حرج فيه، فيقول: قد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة علي جوازه وانعقاده، إذ وقع من أبى بكر - رضى الله عنه - لعمر بن الخطاب بمحضر من الصحابة، وأجازوه وأوجبوا علي أنفسهم به طاعة عمر رضى الله عنه وعنهم
وما قاله ابن خلدون يمكن الرد عليه بأن أبا بكر عهد إلي عمر؛ لأنه رآه أصلح الصحابة لتولي الخلافة بعده وتحمُّل تبعاتها،وقد كان كذلك بالفعل،ولم تكن تربطه به صلة قرابة قريبة، وقد أوضح ذلك بقوله: أترضون بمن أستخلف عليكم ؟ فإني والله ما آلوت من جهد الرأي، ولا ولَّيت ذا قرابة، كما أن عمر لم يصبح خليفة بترشيح أبى بكر الصديق واختياره له فحسب، بل برضى المسلمين وبيعتهم له ولو أن معاوية عهد إلي أحدٍ غير ابنه، واجتهد في اختيار من هم أصلح للخلافة بعده، ما اعترض عليه أحد، ولحقَّق الغرض الذي قصده ابن خلدون من ولاية العهد، وهو سد أبواب الخلاف بين المسلمين، ومن ثم فإن الاعتراضات علي تصرف معاوية جاءت من اختياره ابنه لولاية العهد دون سواه، لا من فكرة ولاية العهد نفسها. وأياً ما كان الأمر فإن الخلافة حُصِرت في الأسرة الأموية، يتوارثها الأبناء والاخوة، ولم يكتفِ الخليفة منهم بتولية العهد لواحد فقط، بل درجوا علي تولية أكثر من ولي للعهد، وكان مروان بن الحكم مؤسس الفرع المروإني أول من بدأ هذا التقليد، فقد عهد إلي ابنه عبد الملك ثم عبد العزيز بولاية العهد، وقد تابعه في هذا كل من جاء بعده حتى آخر دولتهم، وقد جرَّ هذا الأمر عليهم المتاعب، وأوقد نار الفتنة والصراع بين أبناء الأسرة الأموية، مما كان له أكبر الأثر في تدهور الدولة والإسراع بسقوطها في نهاية الأمر وعلي الرغم من استقرار الخلافة بنظام التوريث فإن الأمويين حافظوا علي نظام البيعة من حيث الشكل فكان الخليفة القائم يعهد من بعده بولاية الأمر إلي ابنه أو أخيه، ثم تؤخذ البيعة من الناس لمن صدر له كتاب العهد في حياة الخليفة القائم، ثم تجدد له بعد وفاته، ومغزى هذا أنهم كانوا علي يقين أن مجرد العهد ليس ملزمًا شرعًا للناس، بل لابد من البيعة العامة
الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي
شهد العصر الأموي أوسع حركات الفتح الإسلامي وأكثرها نشاطًا في التاريخ الإسلامي كله بعد فتوحات الخلفاء الراشدين، التي شملت العراق وبلاد فارس كلها، ومصر والشام، ثم توقفت الفتوحات الإسلامية، أو كادت تتوقف بسبب الفتن والحروب الأهلية التي حدثت بين المسلمين
وقد استأنف المسلمون فتوحاتهم بعد اجتماع شملهم علي معاوية بن أبى سفيان وتوحدهم تحت رايته في عام الجماعة سنة 41ه، وحقق الأمويون أعظم إنجازاتهم علي الإطلاق في ذلك الميدان العظيم، وامتدت فتوحاتهم إلي مناطق عديدة في قارات العالم القديم آسيا - إفريقيا - أوربا ففتحوا في عهد الوليد بن عبد الملك بلاد ما وراء النهر آسيا الوسطى وإقليم السند في شبه القارة الهندية، واستكملوا فتح الشمال الإفريقي كله من حدود مصر الغربية إلي المحيط الأطلسي، ثم عبروا مضيق جبل طارق إلي القارة الأوربية، ليفتحوا الأندلس، وجنوبي فرنسا، كما استولوا علي معظم الجزر في شرقي البحر المتوسط وشرقيه وجنوبيه، ثم واصلوا ضغطهم علي مدينة القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، وحاصروها أكثر من مرَّة
التيارات والأحزاب السياسية والدينية
شغلت الدولة الأموية في التاريخ الإسلامي إحدى وتسعين سنة 41 - 132ه، وامتدت حدودها من حدود الصين شرقًا إلي الأندلس غربًا، ومن بحر قزوين شمالا إلي المحيط الهندي جنوبًا، وعمل خلفاؤها في جد ومثابرة وحسن سياسة علي نشر الإسلام في تلك الرقعة الكبيرة، ونمت الحضارة الإسلامية ونهضت في عهدهم. وهذه الأعمال تشهد للأمويين بدورهم البارز في التاريخ الإسلامي، وتخفف كثيرًا من النقد الذي وجه إليهم، ومما يزيد المرء إعجابًا وتقديرًا لإنجازهم أنهم قاموا بتلك الأعمال الجليلة، وهم يصارعون أعداء أشداء من تيارات وأحزاب سياسية ودينية، لم يتركوا فرصة للثورة عليهم إلا انتهزوها. من تلك الأحزاب من تذرَّع بالدين يحارب به، ويتَّهم بنى أمية بالخروج علي الدين وقواعده، وأنهم مغتصبون للسلطة، كالخوارج والشيعة. وهناك شخصيات أعلنت التمرد والثورة علي بنى أمية لأهداف شخصية، ولتحقيق طموحات ذاتية، والوصول إلي الحكم بأي ثمن، مثل المختار بن أبى عبيد الثقفي، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ويزيد بن المهلب
الخوارج
كان الخوارج من أنصار علي بن أبى طالب، وشهدوا معه معركتي الجمل وصفين، ثم انشقوا عليه لما قبل التحكيم بينه وبين معاوية، فسمَوا الخوارج، لخروجهم علي إمامهم، ولما بالغوا وتطرَّفوا في عدائهم له، وعاثوا في الأرض فسادًا، اضطر إلي مقاتلتهم في معركة النهروان، ثم عادوا بنى أمية ودخلوا في صراع طويل معهم. وكانوا في مبدأ أمرهم فرقة واحدة، يدور خلافهم مع بقية الأمة حول الخلافة ومَن أحق بها، ومجمل أمرهم أن الخلافة حق لمن يصلح لها من المسلمين، وتتوافر فيه شروطها من العلم والأمانة والشجاعة، وليس من الضروري أن يكون عربيا فضلا عن أن يكون قرشيا. ولو أنهم حصروا خلافهم مع غيرهم في جدل وحوار نظري يقوم علي مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل لما كان في الأمر شيء ولكن الخطر كل الخطر جاء من لجوئهم إلي العنف واستخدام السيف في فرض آرائهم، وقد بدأ مع علي بن أبى طالب مما جعل خصومهم يواجهون القوة بالقوة، وتكبَّدت الأمة الإسلامية عشرات الآلاف من الضحايا من أبنائها نتيجة هذه الخصومة العنيفة. وظل الخوارج فرقة واحدة، تتبنَّى أفكارًا ومبادئ واحدة حتى وفاة يزيد بن معاوية سنة 64ه، ثم بدأ الشقاق والخلاف يدب بينهم هم أنفسهم، فانقسموا فرقًا وأحزابًا، حتى وصل عددهم إلي ثلاثين فرقة، ثم تطور تفكيرهم بمرور الزمن، وبدءوا يخوضون في قضايا تدخل في صلب الدين، مثل مباحثهم في مرتكب الكبيرة هل مؤمن أو كافر، وغير ذلك من القضايا، وأشهر فرق الخوارج التي ناصبت الدولة الأموية العداء وشنت عليها الحرب، هي
الأزارقة
هم أتباع نافع بن الأزرق، أحد زعماء الخوارج الكبار، وهي تعد أشد فرق الخوارج تطرفًا في أفكارها السياسية والدينية، فهي ترى الخروج علي الخليفة الذي يخالفها في آرائها وقتاله، وأتباعها يتبرءون ممن لا يوافقهم علي ذلك، ويَعدُّونهم من القاعدين، ويكفرون مرتكب الذنوب الكبيرة ويحكمون بخلوده في النار، مخالفين في ذلك صريح القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالي: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء: من 48. ويبيحون دماء مخالفيهم في الرأي
النجدات
وينسبون إلي نجدة بن عامر، وهم أقل تطرفًا من الأزارقة؛ لأنهم لا يقولون بكفر مرتكب الكبائر
البيهسية
وينسبون إلي زعيمهم بيهس، وهم أقل تطرفًا من الأزارقة، و يرون أن مخالفيهم في الرأي منافقون، تجرى عليهم أحكام المنافقين، لكنهم يجيزون حوارهم، والتزاوج معهم، وميراثهم
الصفرية
أتباع زياد بن الأصفر، وهم كذلك أقل تطرفًا من الأزارقة، ومعتدلون في أفكارهم
الشيعة
تعنى كلمة الشيعة: الأهل والأتباع والأنصار، كما في قوله - تعالي، في معرض حديثه عن موسى، عليه السلام -: فاستغاثه الذي من شيعته علي الذي من عدوه . القصص: من 15
و كل قوم اجتمعوا علي أمر فهم شيعة، بعضهم لبعض، غير أن هذه الكلمة أصبحت علمًا علي أنصار علي بن أبى طالب -رضى الله عنه - وذريته من بعده، فإذا قيل: إن فلانًا من الشيعة، عُرف أنه منهم، أو قيل: في مذهب الشيعة كذا، أي: عندهم
وقد نشأ التشيع بسيطًا في أول الأمر ثم تطور بمضي الزمن، وأصبح مذهبًا دينيا وسياسيا، كما كان أتباعه فرقة واحدة، شأنهم في ذلك شأن الخوارج، ثم لم يلبثوا أن تفرعوا إلي فرق، مثل الإمامية الاثنا عشرية، والزيدية والإسماعيلية. ويخالف رأي الشيعة في الخلافة جمهور الأمة الإسلامية التي ترى أن الخلافة أمر من الأمور العامة، يفوض للأمة أمر البت في شأنها، وتختار من تراه الأصلح لدينها ودنياها لتولي منصب الخلافة. أمَّا هم فيرون أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلي الأمة، بل هي ركن من أركان الإسلام، لا يجوز للنبي صلي الله عليه وسلم إغفاله، ولا تفويض الأمة فيه، بل يجب عليه تعيين الإمام للأمة بعده، وأن الإمام لابد أن يكون معصومًا من الكبائر والصغائر، ويزعمون أن النبي صلي الله عليه وسلم فعل ذلك، وعيَّن علي بن أبى طالب، وقد تعددت ثوراتهم المسلحة ضد الدولة الأموية طلبًا للخلافة
انتشار الإسلام في العصر الأموي
امتدت الفتوحات الإسلامية من حدود الصين إلي الأندلس، ومن بحر قزوين إلي المحيط الهندي، وأدخلت في الدولة الإسلامية شعوبًا كثيرة، مختلفة في الديانات والمذاهب واللغات والأجناس والثقافات والعادات والتقاليد، ولم تكن تلك الفتوحات غزوا عسكريا مستغلا للشعوب ناهبًا لثرواتها، وإنما كان فتحًا دينيا وثقافيا ولغويا، فانتشر الإسلام في البلاد المفتوحة بخطى حثيثة، وتغيرت أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية
ويمكن القول: إن هذا العالم الفسيح أصبح عالمًا إسلاميا واحدًا، فسيادة المسلمين عليه لا تنازع، والإسلام هو الدين الغالب في سماحة ورحمة، والحاكم في عدل، ولم تأخذ المسلمين نشوة النصر والغلبة، التي قد تحملهم علي الكبر والتعالي وإذلال الشعوب المغلوبة، بل عاملوهم معاملة كريمة، وصانوا أرواحهم وأموالهم وعقائدهم، وحفظوا عهودهم ومواثيقهم معهم، ووفوا بها في صدق وإخلاص، وأشركوا أبناءهم في حكم بلادهم وإدارتها
عوامل انتشار الإسلام
أولا عالمية الإسلام
لا جدال في أن الإسلام دين عالمي، ورسالته للجنس البشرى كله؛ لقوله تعالي مخاطبًا نبيَّه صلي الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا. النبأ: 28. وقال تعالي: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا الأعراف: 158. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: {إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؛ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين صحيح البخاري
وليس معنى عالمية الإسلام أن يُنشَر بالقوة وبحد السيف، كما يزعم أعداء الإسلام، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر النبي صلي الله عليه وسلم
ثانيًا: التسامح
تعامل المسلمون الفاتحون مع أبناء الشعوب المفتوحة بتسامح ورحمة، وقد شهد بذلك غير المسلمين، فيقول جوستاف لوبون: لم يعرف التاريخ فاتحًا أرضى من العرب. وليس أدل علي وجود هذه السياسة المتسامحة من رد أبى عبيدة بن الجراح الجزية التي أخذها من أهل حمص إليهم، حين اضطر إلي الانسحاب من حمص للدفاع عن دمشق، ولما سألوه في دهشة عن سبب ذلك، قال لهم إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه بلغنا ما جُمِع لنا من الجموع - يقصد الروم الذين تجمَّعوا للهجوم علي دمشق- وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنَّ لا نقدر على ذلك، فرددنا عليكم ما أخذنا منكم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا لحاكمنا فيه من الظلم والغشم -يقصدون الحكم البيزنطي- وردَّكم الله إلينا سالمين، والله لو كانوا هم ما ردُّوا علينا شيئًا
ثالثًا: إشراك أبناء البلاد المفتوحة في إدارة بلادهم
أدرك المسلمون أن سير الأمور في البلاد المفتوحة سيرًا حسنًا، وتحقيق مصالح أهلها يكمُن في الأسلوب الإداري الذي سيتبعونه في إدارة البلاد، ومن ثم لم يترددوا في الاحتفاظ بالنظم الإدارية التي وجدوها في البلاد سواء التي كانت تابعة للدولة البيزنطية مثل مصر والشام وشمالي، إفريقيا، أو التي كانت تابعة للفرس، مثل العراق وبلاد فارس نفسها، ولم يكتفُ بذلك، بل طوروا من النظم ما يرونه ضروريا، ليتفق مع دينهم ونظامهم السياسي والاجتماعي القائم علي أسس من الشريعة الإسلامية، وما يحقق الصالح العام للدولة وللأمة
وكان عمر بن الخطاب هو أول من سنَّ هذه السنة، فاقتبس نظام الدواوين، الذي يشبه نظام الوزارات في الدولة الحديثة من النظم الفارسية والبيزنطية، ولم يجد غضاضة في ذلك. ولم يقف المسلمون عند حد الاستفادة من النظم الإدارية التي وجدوها في البلاد المفتوحة، بل أبقوا أيضًا علي الجهاز الإداري الذي يسيِّر العمل، واحتفظوا لأنفسهم بالمناصب العليا كالإمارة، وقيادة الجيش والقضاء والشرطة. وإزاء هذه السياسة كان المجال رحبًا أمام أبناء البلاد المفتوحة الذين لم يعتنقوا الإسلام للوصول إلي المناصب العليا في الجهاز الإداري، التي كانوا محرومين من توليها في ظل الحكومات السابقة علي الفتح الإسلامي، علي حين كان الطريق مفتوحًا لمن يسلم منهم للوصول إلي مناصب الإمارة أو قيادة الجيوش، مثل طارق بن زياد الذي كان من أصل بربري، لكنه صار من كبار الفاتحين، وفي ذلك يقول أحد الباحثين: إن روح الإسلام الحقَّة هي التي حفَّزت العرب إلي اتباع سياسة التسامح الديني نحو المصريين أي أن الأقباط أصبحوا يتمتعون بحرية تامة في الدين، كما أصبح لهم نصيب كبير في إدارة بلادهم ولم يقتصر القبط علي الأعمال الإدارية الصغيرة، بل شقوا طريقهم إلي أعمال لها خطورتها، ففي ولاية عبد العزيز بن مروان علي مصر 65 - 85ه كان هناك كاتبان قبطيان لإدارة مصر، واحد لمصر العليا - الصعيد - والآخر لمصر السفلي- الدلتا - بل أكثر من ذلك فقد تولي ولاية الصعيد والٍ قبطي اسمه بطرس كما كان حاكم مريوط قبطيا اسمه تاوناس. ولم يحدث هذا في مصر وحدها بل كان ذلك في البلاد المفتوحة كلها، ففي الشام - مقر الدولة الأموية - بقى أهم الدواوين وأخطرها، وهو ديوان الخراج - الذي يمثل وزارة المالية في الوقت الحاضر - في أيدي المسيحيين من أسرة سرجيوس الرومي
ونتيجة لهذه السياسة شعر أهل الذمة - اليهود والنصارى - بالأمان والاطمئنان، فأقبلوا علي اعتناق الإسلام في حرية تامة ودون إكراه
رابعا: الأوضاع الدينية في البلاد المفتوحة
أقبل كثير من أبناء البلاد المفتوحة علي اعتناق الإسلام لبساطته وملاءمته للفطرة الإنسانية، ولعدم اقتناعهم بالأديان التي كانت سائدة في بلادهم، ومعظمها كانت ديانات وضعية وثنية كالزرادشتية، والبوذية، والمانوية والمزدكية، حتى اليهودية والنصرانية دخلها الزيف والتحريف والتعقيد، وأصبحت كل منهما تستعصي علي الفهم. يقول أحد الباحثين المسيحيين: ومن المرجح أن تأثير المسيحية في السواد الأعظم من شعب مصر كان قليلا في القرن السابع - عند الفتح الإسلامي لها- وأن التعليقات النظرية التي استغلها زعماؤهم في إثارة شعور الكراهية والمقاومة في وجه الحكومة البيزنطية، كان يمكن أن يدركها عدد قليل جدا من الناس، كما أن سرعة انتشار الإسلام قد تكون راجعة إلي عجز ديانة كالديانة المسيحية، وعدم صلاحيتها للبقاء، أكثر من أن تكون راجعة إلي الجهود الظاهرة التي قام بها الفاتحون لجذب الآهلين إلي الإسلام
خامسًا: أثر سياسة الدولة الأموية في انتشار الإسلام
حافظ الأمويون علي روح التسامح الإسلامي في سياستهم للبلاد المفتوحة إلي حد كبير، فالتزموا بنصوص المعاهدات وروحها التي أعطيت لأهالي تلك البلاد، فلم ينكثوا عهدًا أو ينقضوا معاهدة، وإذا حدث شيء من هذا فإن الدولة تسارع بتصحيح الخطأ، ولم تذكر المصادر التاريخية سوى حدث واحد من هذا القبيل وقع في العصر الأموي، حين نقض قتيبة بن مسلم عهده مع أهل سمرقند، وكان قد دخل مدينتهم بناءً علي اتفاق معهم علي أن يخرج منها بعد أن يبنى فيها مسجدًا، لكنه لم يخرج منها ناقضًا اتفاقه معهم، فشكوا إلي عمر بن عبد العزيز، فأمر الوالي بأن يحقق في المسألة بإنصاف، فحكم القاضي المسلم بإخراج المسلمين من سمرقند، وأن ينابزوا أهلها علي سواء، فكرهوا القتال، وأقروا المسلمين علي البقاء فيها، وأسعدهم هذا المسلك من الحكومة الإسلامية التي لم تفرق بين المسلم وغير المسلم في العدل، فأقبلوا علي اعتناق الإسلام
انتشار الإسلام في الشام
كان معظم سكان الشام عند الفتح الإسلامي من العرب الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بعدة قرون، وأقاموا هناك ممالك وإمارات، وإلي جانب هؤلاء كانت هناك أقليات من اليهود والأرمن المسيحيين، والروم، والأكراد. وقد وقف عرب الشام في بداية الفتوحات الإسلامية في عهد الراشدين مع الروم ضد أبناء عمومتهم العرب الفاتحين، ظنا منهم أنهم جاءوا إلي الشام لمزاحمتهم فيه، وأخذ أرضهم وأموالهم، لكنهم حين فطنوا إلي أهداف المسلمين الرفيعة ورسالتهم السامية، القائمة علي العدل والحرية والمساواة، اطمأنت نفوسهم إلي الإسلام، وأَنسوا إلي جانب المسلمين، وبخاصة بعد انتهاء المعارك ووضوح نتائجها، وزوال سلطان الروم عنهم. وقد أدَّى ذلك إلي مشاركة عرب الشام عربَ الجزيرة في عقيدتهم ومثلهم وتطلعهم للحياة، وبخاصة أنهم وجدوا أبواب العمل في الدولة الإسلامية مفتوحة أمامهم، فمن أسلم أصبح منهم، وربما تدفعه مواهبه إلي الصفوف الأولي مع كبار القادة العظام، مثل حسان بن النعمان الذي كان ينتمي إلي الأسرة الحاكمة في الشام عند الفتح الإسلامي، ومن بقى علي مسيحيته شارك في ميادين العمل الإداري والمالي
وكان نشر الإسلام في الشام موضع عناية المسلمين وهدفهم، منذ الخطوات الأولي للفتح، فقد أرسل يزيد بن أبى سفيان إلي عمر بن الخطاب يطلب معلمين من الصحابة، يعلمون الناس شرائع الإسلام ويقرئونهم القرآن، فبعث إليه عددًا من كبار الصحابة، منهم: عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، رضى الله عنهم، وبدأت القبائل العربية التي كانت تقطن الشام قبل الفتح الإسلامي تقبل علي الإسلام عن اختيار وفي حرية تامة، فأسلمت أغلبية قبيلة الغساسنة كبرى القبائل العربية في الشام، وكانت لها دولة تبسط سلطانها علي جنوبي سوريا، وشرقي الأردن، وكذا قبائل لخم وجذام وكلب
ولم يقتصر الدخول في الإسلام علي القبائل العربية بل اعتنق الإسلامَ كثيرٌ من المسيحيين غير العرب؛ كالأرمن والروم، لما فيه من بساطة وسماحة، بالقياس إلي المسيحية التي تحولت إلي طلاسم وألغاز وجدل عقيم. ويذكر توماس آرنولد أن انتشار الإسلام بين نصارى الكنائس الشرقية كان نتيجة شعور بالاستياء من السفسطة المذهبية التي جلبتها الروح الهللينية إلي اللاهو ت المسيحي، لأنها أحالت تعاليم المسيح - عليه السلام - البسيطة السامية إلي عقيدة محفوفة بمذاهب عويصة، مليئة بالشكوك والشبهات، فأدى ذلك إلي خلق شعور من اليأس، بل زعزع أصول العقيدة الدينية ذاتها، فلما أهلَّت آخر الأمر أنباء الوحي الجديد فجأة من الصحراء، لم تعد تلك المسيحية الشرقية التي اختلطت بالغش والزيف، وتمزَّقت بفعل الانقسامات الداخلية، قادرة علي مقاومة إغراء الدين الجديد - الإسلام - الذي بدَّد بضربة واحدة من ضارباته كل الشكوك التافهة، وقدَّم مزايا مادية جديدة إلي جانب مبادئه الواضحة البسيطة التي لا تقبل الجدل، وحينئذٍ ترك الشرق المسيح، وارتمى في أحضان نبي بلاد العرب. وكان من الطبيعي أن يكون حجم انتشار الإسلام في الشام كبيرًا، لقربه من الحجاز منزل الوحي، ووفود كثير من الصحابة إليه في الفتوحات وبعدها، وإقامتهم فيه، وإقامة كثير من أفراد جيوش الفتح الوافدة من الجزيرة العربية في الشام
ولما قامت الدولة الأموية سنة 41ه واتخذت من دمشق عاصمة لها، اتسع نطاق انتشار الإسلام بين القبائل العربية، وأصبح الشام قطرًا عربيا إسلاميا خالصًا، يعيش فيه بعض الأقليات المسيحية واليهودية في حرية وأمان
انتشار الإسلام في مصر
فُتحت مصر في عهد عمر بن الخطاب، ومنذ الأيام الأولي للفتح أقبل بعض المسيحيين علي الدخول في الإسلام بحرية تامة وحتى قبل تمام الفتح، فقد كتب يوحنا النقيوسي - وهو رجل دين مسيحي كان قريبًا من حوادث الفتح أن بعض المصريين تركوا الدين المسيحي وأسلموا، وصحبوا جيوش العرب أثناء الفتح، كان منهم يوحنا أحد رهبان دير سيناء. واستمرت حركة الدخول في الإسلام في زيادة مطردة، فدخل علي عهد الخليفة هشام بن عبد الملك أربعة وعشرون ألفًا منهم الإسلام دفعة واحدة سنة 108ه ولم يكن دخول الإسلام مقصورًا علي طبقة بعينها، بل دخل فيه ناس من كل الطبقات، كما اعتنقه كثير من الروم الذين بقوا في مصر بعد الفتح الإسلامي. وباستمرار دخول المسيحيين في مصر في الإسلام أصبح أغلبية السكان مسلمين، وتعلموا اللغة العربية، وأصبحت مصر بلدًا عربيا إسلاميا، وبقى بعض الأقباط علي دينهم حتى الآن، وهذا دليل سماحة الإسلام، وآية علي أن من اعتنق الإسلام منهم اعتنقه عن رضى واقتناع ودون إكراه، فلو أكره الفاتحون المسلمون الأقباط علي ترك دينهم والدخول في الإسلام؛ لما بقى مسيحي واحد في مصر. وكان دور المسلمين في جذب المسيحيين وغيرهم دور الداعي إلي دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، والقدوة الطيبة، بالإضافة إلي جو الحرية وسريان روح الرحمة والتسامح الذي أشاعه الخلفاء والحكام والأمراء، ولم يعد المسلمون أنفسهم طبقة متميزة علي أهل البلاد، وإنما اختلطوا بهم وتعايشوا معهم وصاهروهم، وعاملوهم بتقدير واحترام، خاصة أن النبي أوصى المسلمين خيرًا بأهل مصر حين يفتحونها، فإن لهم ذمة ورحمًا، فهاجر أم إسماعيل عليه السلام منهم، وكذلك مارية القبطية التي تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم وأنجب منها إبراهيم
انتشار الإسلام في شمالي إفريقيا
تشمل منطقة شمالي إفريقيا المنطقة التي تمتد من حدود مصر العربية حتى شاطئ المحيط الأطلنطي، وهي من أكثر المناطق التي أرهقت المسلمين في فتحها، الذي استغرق نحو سبعين سنة، وذلك بسبب المقاومة العنيدة التي لقيها المسلمون من سكان البلاد، ومعظمهم من البربر الذين يعتزون بحريتهم وكرامتهم. وكانت مقاومتهم الشديدة للفتح ترجع إلي جهلهم بطبيعة الإسلام وأهدافه ومبادئه، وظنهم أن الفاتحين كغيرهم من الغزاة، جاءوا لاستغلال بلادهم والاستيلاء علي خيراتها، فلما فهموا الإسلام وما يحمله من عزة وكرامة، واحتكوا بالفاتحين المسلمين وسماحتهم ورحمتهم أقبلوا علي الإسلام بحماس لا نظير له، وحملوا رايته، وجاهدوا في سبيله، وشاركوا في فتوحاته، فكان لهم في فتح الأندلس بلاءٌ حسن. وعلي الرغم من طول أمد فتح شمالي إفريقيا؛ بسبب المقاومة العنيدة التي أبداها السكان فإن استجابتهم للإسلام واعتناقهم له كان أسرع وأوسع انتشارًا مما حدث في بلاد المشرق الأسبق فتحًا مثل العراق والشام ومصر وقد بدأ السكان يقبلون علي الإسلام منذ فتح عمرو بن العاص برقة في عهد عمر بن الخطاب، وظل هؤلاء متمسكين بإسلامهم علي الرغم من توقف الفتوحات فترة طويلة؛ بسبب الفتن الداخلية في الدولة، بدليل وجود كثير من أهل البلاد في جيش عقبة بن نافع، عندما أسند إليه معاوية قيادة جيش الفتح في شمالي إفريقيا، كما أسلم علي يدي عقبة في تلك الفترة أعداد كبيرة. ثم خطا الإسلام في المغرب خطوات واسعة، وسعى سعياً حثيثًا في عهد أبى المهاجر دينار؛ لحسن سياسته التي جذبت ملك البربر كسيلة إلي الإسلام، وأسلم بإسلامه أعداد هائلة، وكان أبو المهاجر يبنى مسجدًا في كل مدينة يفتحها، ويعمل علي امتزاج العرب الفاتحين بأهالي البلاد؛ ليكون لذلك أثره في تعليمهم الدين واللغة العربية. ثم كان ظهور حسان بن النعمان ومن بعده موسى بن نصير في شماليّ إفريقيا من عوامل التمكين للإسلام في البلاد؛ فاستطاع حسان أن يقضى علي الوجود البيزنطي قضاءً تاما، ثم علي مقاومة الكاهنة التي تزعمت البلاد بعد مقتل كسيلة. والعجيب أن هذه المرأة العنيدة وهي تخوض معركتها الأخيرة مع حسان، أوصت أبناءها بالانضمام إليه واعتناق الإسلام إن هي هزمت في الحرب، فلما حدث ذلك أسلم أبناؤها، وعيَّنهم حسَّان أمراء علي قبائلهم، وأسلم بإسلامهم اثنا عشر ألف رجل دفعة واحدة. وأمَّا موسى بن نصير فقد ركز اهتمامه علي نشر الإسلام بين السكان، وكان يأمر جنده العرب بتعليم البربر المسلمين في جيشه القرآن الكريم، وتفقيههم في الدين، كما ترك بين قبائل المصامدة سبعة عشر رجلا من العرب ليقوموا بالغرض نفسه. وكان لعمر بن عبد العزيز أثر كبير في نشر الإسلام بالمغرب، فقد أرسل عشرة رجال من الصالحين التابعين إلي هناك، ليعلموا الناس الدين، فتوافد عليهم الناس من أنحاء البلاد كلها، ليتلقوا عنهم أمور دينهم
ومن المعروف أن المسيحية قد دخلت شمالي إفريقيا منذ القرون الأولي لميلاد السيد المسيح، عليه السلام، وبخاصة في منطقة الساحل المطلة علي البحر المتوسط في حين بقيت المناطق الداخلية البعيدة عن الساحل علي وثنيتها
انتشار الإسلام في الأندلس
لمَّا فتح المسلمون الأندلس في أواخر القرن الهجري الأول 92 - 95ه كانت ديانة معظم السكان هي المسيحية الكاثوليكية، بالإضافة إلي جالية يهو دية كبيرة وبعض الوثنيين، ثم بدأت أعداد كبيرة منهم تعتنق الإسلام، يأتي في مقدمتهم طبقة الرقيق التي وجدت في الإسلام نجاتها وخلاصها من الظلم والاضطهاد الذي كانت تعانيه تحت حكم القوط
ولم تكن طبقة الرقيق وحدها هي التي أسرعت إلي اعتناق الإسلام، بل اعتنقه كثير من الوثنيين وأشراف المسيحيين، بالإضافة إلي أعداد كبيرة من الطبقات الوسطى والدنيا، بل إن بعض القساوسة اعتنق الإسلام، مثل تيود سكلوس الذي كان رئيس أساقفة إشبيلية
وقد حدث ذلك كله في السنوات الأولي، التي أعقبت الفتح الإسلامي مباشرة، دون إكراه من المسلمين لإجبار أهل الأندلس وحملهم علي الإسلام حملا، بل أقبلوا عليه عن رضى واقتناع تام، ساعد علي ذلك بساطة الإسلام وبعده عن التعقيدات الكهنوتية التي حفلت بها ديانتهم، واختلاط المسلمين الفاتحين بأهل البلاد ومصاهرتهم، و قد فعل ذلك أعداد كبيرة من المسلمين، حتى الأمراء منهم، فقد تزوج عبد العزيز بن موسى بن نصير بابنة الملك القوطى رذريق، وحذا حذوه كثير من القادة والجنود،ونتج عن هذه المصاهرات جيل جديد في الأندلس عُرف بالمولدين، وهم الذين ولدوا من آباء عرب وأمهات أندلسيات، وهؤلاء نشئوا مسلمين بطبيعة الحال، وسرعان ما تزايد عددهم، وأصبحوا يشكلون غالبية السكان، واحتلوا مكانة كبيرة في المجتمع وكان لهم دورهم في تسيير أمور الدولة الإسلامية
و قد أصبح هذا الجزء الذي يقع في جنوبي غربي أوربا بلدًا عربيا
مسلمًا في حرية تامة ودون تعصب أو إكراه، ولم يستغل الفاتحون المسلمون انتصارهم علي القوط في استئصال المسيحية من البلاد كما فعل فردينان
و إيزابيلا في استئصال المسلمين بعد ذلك بثمانية قرون
انتشار الإسلام في العراق
كان معظم سكان العراق عند الفتح الإسلامي عربًا من قبائل ربيعة، مثل: بكر بن وائل وتغلب،ثم جاء المناذرة اللخميون ومن هم من قبائل اليمن، فأقاموا في العراق إمارة عربية عُرفَت بإمارة المناذرة، كانت خاضعة للفرس، تأتمر بأمرهم، وتصد غارات القبائل العربية عليهم، وهجمات البيزنطيين وحلفائهم غساسنة الشام، و قبيل ظهور الإسلام أنهى الفرس سنة 602م حكم المناذرة، وحكموا العراق حكمًا مباشرًا
ولم يكن موقف عرب العراق من الفاتحين المسلمين عدائيا صريحًا، وإنما تراوح بين العداء والوقوف مع الفرس وتأييدهم وبين التعاون مع العرب الفاتحين، ثم الترحيب بهم بعد توالي انتصاراتهم علي الفرس في القادسية ونهاوند
وقد وجد سكان العراق أنفسهم بعد الفتح تحت حكم المسلمين يعاملون معاملة حسنة، تُحفظ لهم كرامتهم وحريتهم، وتصان عقائدهم، ولم تنتزع أرضهم، ولم يجبرهم أحد علي الدخول في الإسلام، وكانوا قبل ذلك أقرب ما يكونون إلي حال الرق، ذلا واستعبادًا للفرس، فأقبلوا علي اعتناق الإسلام في حرية تامة
ولم يسلم عرب العراق فقط، بل أسلم كثير من الفرس أنفسهم، الذي يعيشون في العراق، وقدموا للمسلمين مساعدات كثيرة، ووقفوا إلي جانبهم في المعارك، فاستشار سعد بن أبى وقاص من أسلم من الفرس في كيفية التغلب علي الفيلة الفارسية المدربة علي الحرب و القتال، ولم تكن للفاتحين المسلمين خبرة بمواجهتها في ساحات المعارك، فدلوه علي مقاتلها، بأن تُضرب في عيونها ومشافرها، فلا تستطيع القتال بعد ذلك. ثم ازداد إقبال الفرس علي الدخول في الإسلام بعد انتصار المسلمين في القادسية، فأسلم أربعة آلاف من الديلم دفعة واحدة، وجاهدوا مع الفاتحين في نهاوند، و يدل تزايد الإقبال علي الدخول في الإسلام، سواء من العرب أومن غيرهم علي أن اشتراك الطبقات المقهورة مع الفرس ضد المسلمين في البداية، إنما كان خوفًا من بطشهم، فلما تحطمت قوتهم في القادسية زال الخوف، وأقبل الناس علي الإسلام وإلي جانب هؤلاء أسلمت أعداد كبيرة من الأساورة والأشراف وعلية القوم، فرحَّب بهم القادة العرب، وأشركوهم معهم في الحكم، فيروى الطبري أن سعد بن أبى وقَّاص كتب إلي عبد الله بن المعتم أن أخلف علي الموصل مسلم بن عبد الله الذي كان قد أُسِرَ في القادسية، وأن القعقاع بن عمرو التميمى استخلف علي حلوان - مدينة فارسية شمالي شرقي المدائن- بعد فتحها، رجلا فارسيا اسمه قباذ. وقد أخذ الإسلام ينتشر في العراق باطِّراد إلي أن أصبح بلدًا عربيا إسلاميا خالصًا في العصر الأموي، ومركزًا ودعامة لتثبيت الحكم الإسلامي في بلاد فارس، ومنطلقًا للفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر والسند
انتشار الإسلام في بلاد فارس
كانت الديانة الرئيسية في بلاد فارس قبل الفتح الإسلامي هي الديانة الزرادشتية، وهي ديانة وثنية، تؤمن بأن للعالم إلهين، أحدهما إله الخير، والآخر إله الشر، وإلي جانب تلك الديانة التي كان يدين بها ملوك آل ساسان توجد البوذية والمانوية والمزدكية بالإضافة إلي اليهودية والمسيحية علي نطاق ضيق. ولم يأخذ المسلمون من هذه الأديان موقفًا عدائيا، ولم يتخذوا إجراءً ضدها، بل صانوا للناس حرية الاعتقاد، إلي الحد الذي اعتدُّوا فيه بالمجوسية الفارسية وهي عبادة النار، وعاملوا أتباعها معاملة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقبلوا منهم الجزية نظير بقائهم علي دينهم
ولما اطمأنت نفوس أهل فارس أو معظمهم إلي حكم الفاتحين نظروا إلي دينهم، مقارنين بينه وبين ما لديهم من أديان فلم يجدوا وجهًا للمقارنة، فكلها أديان وثنية مليئة بالخرافات والأوهام، فتركوها غير آسفين، وأقبلوا علي الإسلام في حرية تامة، ودون ضغط أو إكراه، و لم يفعل ذلك أتباع الديانات الوثنية فقط، وإنما فعله كثير من المسيحيين. يقول آرنولد: وقد أدَّى تغير الحكومة - الساسانية - إلي تخليص الكنيسة المسيحية المضطربة في فارس من استبداد ملوك الساسانيين الذين أثاروا الخلافات وزادوا في فوضى الطوائف - المسيحية - المتنافرة، ولعل هذه الأحوال المضطربة قد هيأت عقول الناس لذلك التحول الفجائي في شعورهم، الذي سهل تغيير العقيدة، و إلي جانب الاضطراب السياسي في الدولة ظهرت تلك الفوضى الأخلاقية التي ملأت عقول المسيحيين.. فمالوا إلي هذا النظام العجيب من التنسيق العقلي، الذي ينمو فيه الدين الجديد في سهولة ويسر، ويكتسح أمامه أكثر الأديان الأخرى، ويحاول أن يقيم الحالة الدينية و الاجتماعية علي أسس جديدة، وبعبارة أخرى كان أهل فارس قد بلغت عقليتهم درجة ساعدتهم علي التحول إلي ذلك الدين الجديد، و الترحيب باعتناقه في حماسة ملحوظة؛ لما يمتاز به من البساطة، و هكذا قدر للإسلام أن يبدد بضربة واحدة كل هذه الغيوم، وأن يفتح أمام الناس سبلا واضحة من الآمال الكبيرة، وأن يخلصهم في أقرب وقت من عبوديتهم وحالتهم السيئة و قد تتابع دخول الفرس بأعداد كبيرة في الإسلام دون إكراه، مدفوعين بالدعوة الصادقة التي يقوم بها المسلمون لدينهم، و التعريف به وشرح مبادئه، والالتزام بها في حياتهم، كل ذلك كان له عظيم الأثر في التمكين للإسلام في البلاد. ثم خطا الأمويون خطوات واسعة أدَّت إلي انتشار الإسلام واللغة العربية في بلاد فارس، تمثلت في تهجير عشرات من القبائل العربية إلي الأقاليم الفارسية وتسكينهم فيها، فنقل زياد بن أبى سفيان و الي العراق في خلافة معاوية سنة 51ه خمسين ألف أسرة عربية من أهل البصرة والكوفة إلي خراسان دفعة واحدة، وتتابعت بعد ذلك الهجرات العربية إلي الأقاليم الفارسية بأعداد كبيرة؛ مما كان له أثر كبير في نشر الإسلام عن طريق المعايشة، و القدوة العملية، وإقامة شعائر الدين. وفي الوقت نفسه هاجرت أعداد كبيرة من الفرس إلي المدن العربية الجديدة كالبصرة والكوفة، بقصد العمل في التجارة والأعمال الحرفية، كأعمال البناء التي لا يجيدها العرب، كما عمل كثيرون منهم في دواوين الدولة، وقد بلغ عدد العمال من الفرس - أي الموظفين - المقيدين في ديوان عبيد الله بن زياد والي البصرة 55 64ه مائة وأربعين ألفًا، وهو رقم غير مبالغ فيه، لأن ديوان البصرة كان يشمل الموظفين المدنيين في جنوبي العراق، وكل المقاطعات الجنوبية الشرقية من بلاد فارس حتى خراسان شمالا. وقد علل ابن زياد استخدام هذا العدد الكبير من الفرس في الديوان بكفاءتهم ومهارتهم وأمانتهم في العمل، وهذا يعنى ثقة الدولة بالموظفين من الفرس، وهذه الثقة شجعتهم علي الدخول في الإسلام. وأدَّى وجود أعداد كبيرة من الفرس في البيوت العربية، ومصاهرتهم للعرب، إلي انتشار الإسلام بينهم، واتخاذ أسماء وألقاب عربية
ويمكن إجمال القول بأن غالبية الشعب الفارسي تحولت إلي الإسلام في العصر الأموي، وأصبحت عنصرًا مؤثرًا في المجتمع والدولة الإسلامية ذاتها، وكانت في طليعة المجاهدين في فتح بلاد ما وراء النهر
موقف الموالي الفرس من الدولة الأموية
كان لبعض الموالي الفرس مواقف عدائية ضد الدولة الأموية، علي الرغم من تسامح الحكومة مع الفرس وإشراكهم في الإدارة، بل تفضيلهم أحيانًا علي العرب أنفسهم؛ فلم يتركوا فرصة للخروج عليها إلا انتهزوها، ولا دعوة لثائر إلا انضموا تحت لوائه، أيا كان اتجاهه السياسي، فانضموا إلي ابن الزبير، والمختار الثقفي، وعبد الرحمن بن الأشعث، ويزيد بن المهلب، وغيرهم، وناصروا الخوارج، وتحالفوا مع الشيعة دائمًا. وهذه المواقف العدائية من الدولة الأموية جعلت بعض الباحثين يظنون أنهم فعلوا ذلك لظلم وقع عليهم من الدولة، وراحوا يكيلون التهم جزافًا للأمويين بأنهم متعصبون للعرب ضد الفرس، وهذا اتهام لا دليل عليه وبعيد عن واقع الأمر، فالدولة الأموية عُرفَت بتسامحها مع غير المسلمين من أهل الذمة، فكيف يضيق صدرها بالمسلمين من الموالي ولعل السبب الرئيسي في عداء الموالي للدولة الأموية يكمن في أن كثيرين من أبناء فارس لم يستطيعوا التخلص تمامًا من ماضيهم، حيث كانوا أصحاب السيادة علي العرب، ولهم نفوذ في العالم، فلما فتح المسلمون بلادهم عزَّ عليهم أن يحكمهم العرب، فعملوا كل ما في وسعهم لتقويض الدولة الأموية. ولم يكن الموالي كلهم يعادون العرب، ولذا نستطيع أن نقسم الموالي إلي أربع طوائف رئيسية، هي
- الطائفة الأولي: أسلمت إسلامًا حقيقيا، ارتفع بها فوق العصبية القومية، مثل: سلمان الفارسي، رضي الله عنه، والحسن البصري التابعي المعروف، وهذه الطائفة لم تر بأسًا في أن يحكمها العرب، و نظرت إليهم نظرة تقدير واحترام؛ لأنهم سبب هدايتها، وبادل العرب هذه الطائفة ودا بود وتقديرًا بتقدير، وكان كبار التابعين من الموالي، مثل الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن يسار، وعطاء بن أبى رباح، موضع احترام المجتمع والدولة، وكان تأثيرهم في الحركة العلمية عظيمًا
- الطائفة الثانية: وهي التي أسلمت إسلامًا رقيقًا، ولم تتخلص من الماضي تمامًا، وظلت تفخر بالأمجاد الفارسية القديمة، وهذه الطائفة لم ترفض الإسلام دينًا ولكنها رفضت السيادة والحكم العربيين، وظلت تسعى للقضاء عليهما بدأب شديد، وكانت نواة الحركة الشعوبية التي نادت بتفضيل الفرس علي العرب
- الطائفة الثالثة: وهي التي أسلمت نفاقًا، لأنها رأت أن السبيل إلي المال والجاه والسلطان لا يكون إلا بالدخول في الإسلام، فأعلنت اعتناقه ولم يدخل الإيمان قلوبها، ولم تدع فرصة للكيد للعرب إلا انتهزتها، كما دعت إلي الشعوبية والمذاهب الدينية القديمة، وهذه الطائفة كانت أساسًا لحركة الزندقة
- الطائفة الرابعة: وهي التي لم تسلم، وبقيت علي مجوسيتها بفضل الحرية التي منحها العرب لأهل بلاد فارس. والذي نريد أن نخلص إليه أن القول باضطهاد الدولة الأموية للموالي، وعداء الموالي للدولة كان رد فعل لذلك، هو قول بعيد عن الحقيقة، فلم تكن هناك سياسة مرسومة للأمويين تعادى الموالي الفرس، وفي الوقت نفسه لا ننكر أن يكون بعض العرب قد نظر إلي الموالي الفرس نظرة تعالٍ وتكبر، لكن ذلك لم يكن سياسة دولة، وإنما
قامت الخلافة الأموية رسميا في شهر ربيع الأول من سنة 41هـ، بعد أن تنازل الحسن بن علي بن أبى طالب -رضى الله عنه -عن الخلافة لمعاوية بن أبى سفيان -رضى الله عنه- وبايعه هو وأخوه الحسين، وتبعهما الناس في الكوفة، وأصبح بذلك معاوية خليفة للمسلمين وحده، ولُقِّب بأمير المؤمنين، وكان قبل ذلك يلقَّب بالأمير فقط. واستبشر المسلمون خيرًا بهذا التطور، وحمدوا الله - تعالي - علي انتهاء الفتن والحروب، وسمُّوا ذلك العام عام الجماعة؛ حيث عادت إلي الأمة الإسلامية وحدتها، واجتمع شملها علي خليفة واحد، بعد الفرقة والنزاع، ولقي ما فعله الحسن بن علي كل تقدير وإجلال من جمهور المسلمين، وأثنى عليه كثير من العلماء، ورأوا فيما أقدم عليه تحقيقًا لنبوءة جده محمد حين قال: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين - صحيح البخاري
تطور نظام الخلافة في العصر الأموي
عرفنا فيما سبق كيف قامت الخلافة الإسلامية عقب وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم وكيف كان يتم اختيار الخليفة في دولة الراشدين بالبيعة المباشرة من المسلمين لخليفتهم، بعد أن يرشحه عدد من الصحابة، كما حدث في خلافة الصديق، حيث بايعه عدد من الصحابة في سقيفة بنى ساعدة بيعة خاصة، كانت بمثابة ترشيح له لمنصب الخلافة، ثم جاءت البيعة العامة له في مسجد الرسول صلي الله عليه وسلم - بعد مواراة جسده الطاهر تحت الثرى لتزكى ذلك الترشيح وتوافق عليه، ومن ثم أصبح أبوبكر الصديق أول خليفة لرسول الله صلي الله عليه وسلم في حكم الدولة الإسلامية، باختيار حُر من المسلمين. وعندما مرض أبوبكر -رضى الله عنه - مرض الموت قال للمسلمين: إنه قد نزل بي ما ترون - يعنى المرض الشديد - ولا أظنني إلا ميِّتًا لما بي من المرض، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحلَّ عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة منِّى كان أجدر ألا تختلفوا بعدى. وتصرُّف أبى بكر الصديق دليل ساطع وبرهان قوى علي أن اختيار الحاكم من حق الأمة وحدها، لكن الصحابة فوضوه في اختيار خلف له، وألحُّوا عليه في ذلك، فقبل تكليفهم، ووقع اختياره علي عمر بن الخطاب -رضى الله عنه - لكفاءته وقدرته وسابقته في الإسلام، ولم يكتفِ الصديق باختياره هو لعمر بن الخطاب، بل استطلع آراء كبار الصحابة حول مرشحه، مع أنه مفوض من الصحابة في اختيار خليفة لهم، ويعلم بأن عمر هو أفضل الصحابة بعده، و أصلحهم لتولي الخلافة، لكنه آثر ألا ينفرد وحده باختيار خليفة له. ولما اطمأنت نفسه إلي أن الغالبية ممن شاورهم تؤيد اختيار عمر، جمع الناس حوله، وحدَّثهم قائلا: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإني والله ما آلوت من جهد الرأي، ولا ولَّيت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا
ولم تنعقد بيعة عمر ليصبح خليفة إلا بعد وفاة أبى بكر، وبمبايعة الناس له بيعة عامة، ولو لم يرضَ الناس بترشيح أبى بكر، ورفضوا مبايعة عمر، ما كان لعهد أبى بكر الصديق عليهم حجة أو سلطان
وجاء اختيار عثمان بن عفان - رضى الله عنه - ببيعة عامة حرَّة من بين الستة الذين رشحهم عمر بن الخطاب -رضى الله عنه - ليختاروا واحدًا منهم، وقد حصرها فيهم؛ لأنهم بقية العشرة المبشرين بالجنة، والذين تُوفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ
ولما قُتل عثمان بن عفان شهيدًا، ألحَّ الصحابة علي علي بن أبى طالب أن يقبل الخلافة، بعد أن سادت الفوضى مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وامتنع كبار الصحابة عن قبول الخلافة، فقبل علي الخلافة؛ لينقذ الأمة من الفتن، وبايعه معظمهم، ولا جدال في أن قيام علي بالأمر في ذلك الوقت العصيب كان تضحية تنطوي علي شجاعة حيث تحمل المسئولية في أصعب الظروف وأدقها. وكان متوقعًا أن تنهي بيعته بالخلافة حالة الفوضى التي سادت البلاد بعد مقتل عثمان، لكن الأحداث تطورت سريعًا من سيئ إلي أسوأ، وانتهي به الحال أن قُتل شهيدًا، وقبل وفاته استشاره أصحابه في بيعة ابنه الحسن بعده، فقال لهم: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر، لكنهم بايعوا الحسن، الذي تنازل عن الخلافة لمعاوية كما ذكرنا
وخلاصة ما سبق أن طريقة اختيار الخليفة في عهد الراشدين كانت تتم ببيعة حرة وعامة بعد ترشيح شخص أو أكثر، وأن ترشيح الخليفة السابق لم يكن ملزمًا للأمة، بل لها أن توافق أو تعترض، وهذا هو نظام الشورى في الإسلام الذي يشبه في مصطلحات العصر الحديث النظام الديمقراطي. ولم يفكر أي واحد من الخلفاء الراشدين في أن يعهد بالأمر إلي أحد من أبنائه أو أقربائه، حرصًا منهم علي إبعاد فكرة الوراثة عن نظام الحكم الإسلامي إبعادًا تاما، وقد وضَّح أبوبكر الصديق هذا المعنى عندما رشَّح عمر في قوله: أترضون بمن أستخلف عليكم ؟ فإني والله ما آلوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، كما استبعد عمر بن الخطاب ابنه عبد الله تمامًا من الترشيح، بل استبعد ابن عمه سعيد بن زيد أيضًا من الترشيح مع أهل الشورى؛ دفعًا لشبهة القرابة مع أن الشروط تنطبق عليه.ولم يُؤثَر عن عثمان شيء من ذلك، وترك علي بن أبى طالب الأمر للأمة لاختيار من ترضاه، ورفض ترشيح ابنه الحسن للخلافة أو الوصاية له بالبيعة
أسلوب اختيار الخليفة الأموي
لم يكن أحد يظن أن بيعة المسلمين لمعاوية بن أبى سفيان ستكون إيذانًا بتأسيس دولة أموية وراثية وكان المسلمون قد استبشروا خيرًا بهذه البيعة بعد فترة من الفتن والحروب، حتى إن بعض الصحابة الذين كانوا قد توقفوا في بيعة علي - رضى الله عنه - بايعوا معاوية، دعمًا لوحدة الأُمة ولمِّ شملها، مثل: سعد بن أبى وقاص عبد الله بن عمر. وربما توقَّع الناس أن معاوية سيحذو حذو من سبقه من الخلفاء الراشدين ويترك الأمر شورى للمسلمين، يختارون للخلافة من بعده من يرونه أهلا لتولي تبعات هذا المنصب الجليل، أو سيجتهد في اختيار شخص يراه أصلح الناس لتولي منصب الخلافة، ويكون بعيدًا عن قرابته كما فعل الخلفاء قبله، لكن معاوية فاجأ الأمة الإسلامية بترشيح ابنه يزيد للخلافة من بعده، وبدأ في أخذ البيعة له في حياته، بدعم من أهل الشام، ولما نجح في ذلك لم يكن صعبًا عليه أن ينتزع البيعة لابنه من بقية الأقطار الإسلامية، بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى. ولم يعارض معاوية في خطواته هذه سوى أهل الحجاز، الذين رأوا في عمله خروجًا علي ما ألفه المسلمون في اختيار خليفتهم ببيعة حرة قائمة علي الشورى، وتركزت المعارضة في ثلاثة من أبناء كبار الصحابة، هم الحسين بن علي بن أبى طالب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر. وقد تطورت معارضة الأولين إلي خروج الحسين علي يزيد بعد موت معاوية، واستشهاده في موقعة كربلاء المشهورة سنة 61هـ، وإلي دعوة عبد الله بن الزبير بالخلافة لنفسه بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64ه، ثم دخوله في صراع مع الأمويين، انتهي بمقتله سنة 73ه، بعد أن دامت خلافته تسع سنوات، أمَّا عبد الله بن عمر، فقد بايع يزيد حفاظًا علي وحدة المسلمين، بعد أن رأي أن استمراره في معارضته لن يكون في مصلحة الأمة الإسلامية
وقد دافع عن عمل معاوية كثير من المؤرخين، و رأوا في صنيعه عملا ضروريا للحفاظ علي وحدة الأمة، واجتناب العودة إلي الحروب الأهلية، ويقف علي رأس هذا الفريق المؤرخ الكبير عبد الرحمن بن خلدون مؤيِّدًا إقدام معاوية علي هذه الخطوة بقوله: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم، باتفاق أهل الحل والعقد حينئذٍ من بنى أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش -أي أكثرهم قوة- وأهل الحل أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولي بها، وعدل عن الفاضل إلي المفضول؛ حرصًا علي الاتفاق واجتماع الأهواء، الذي شأنه أهم عند الشارع، لا يظن بمعاوية غير هذا، فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عليه، دليلٌ علي انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم أجلُّ من ذلك وعدالتهم مانعة. ويدعم ابن خلدون رأيه هذا بأن ولاية العهد من الخليفة القائم إلي شخص يتولى الخلافة بعده أمر جائز لا حرج فيه، فيقول: قد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة علي جوازه وانعقاده، إذ وقع من أبى بكر - رضى الله عنه - لعمر بن الخطاب بمحضر من الصحابة، وأجازوه وأوجبوا علي أنفسهم به طاعة عمر رضى الله عنه وعنهم
وما قاله ابن خلدون يمكن الرد عليه بأن أبا بكر عهد إلي عمر؛ لأنه رآه أصلح الصحابة لتولي الخلافة بعده وتحمُّل تبعاتها،وقد كان كذلك بالفعل،ولم تكن تربطه به صلة قرابة قريبة، وقد أوضح ذلك بقوله: أترضون بمن أستخلف عليكم ؟ فإني والله ما آلوت من جهد الرأي، ولا ولَّيت ذا قرابة، كما أن عمر لم يصبح خليفة بترشيح أبى بكر الصديق واختياره له فحسب، بل برضى المسلمين وبيعتهم له ولو أن معاوية عهد إلي أحدٍ غير ابنه، واجتهد في اختيار من هم أصلح للخلافة بعده، ما اعترض عليه أحد، ولحقَّق الغرض الذي قصده ابن خلدون من ولاية العهد، وهو سد أبواب الخلاف بين المسلمين، ومن ثم فإن الاعتراضات علي تصرف معاوية جاءت من اختياره ابنه لولاية العهد دون سواه، لا من فكرة ولاية العهد نفسها. وأياً ما كان الأمر فإن الخلافة حُصِرت في الأسرة الأموية، يتوارثها الأبناء والاخوة، ولم يكتفِ الخليفة منهم بتولية العهد لواحد فقط، بل درجوا علي تولية أكثر من ولي للعهد، وكان مروان بن الحكم مؤسس الفرع المروإني أول من بدأ هذا التقليد، فقد عهد إلي ابنه عبد الملك ثم عبد العزيز بولاية العهد، وقد تابعه في هذا كل من جاء بعده حتى آخر دولتهم، وقد جرَّ هذا الأمر عليهم المتاعب، وأوقد نار الفتنة والصراع بين أبناء الأسرة الأموية، مما كان له أكبر الأثر في تدهور الدولة والإسراع بسقوطها في نهاية الأمر وعلي الرغم من استقرار الخلافة بنظام التوريث فإن الأمويين حافظوا علي نظام البيعة من حيث الشكل فكان الخليفة القائم يعهد من بعده بولاية الأمر إلي ابنه أو أخيه، ثم تؤخذ البيعة من الناس لمن صدر له كتاب العهد في حياة الخليفة القائم، ثم تجدد له بعد وفاته، ومغزى هذا أنهم كانوا علي يقين أن مجرد العهد ليس ملزمًا شرعًا للناس، بل لابد من البيعة العامة
الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي
شهد العصر الأموي أوسع حركات الفتح الإسلامي وأكثرها نشاطًا في التاريخ الإسلامي كله بعد فتوحات الخلفاء الراشدين، التي شملت العراق وبلاد فارس كلها، ومصر والشام، ثم توقفت الفتوحات الإسلامية، أو كادت تتوقف بسبب الفتن والحروب الأهلية التي حدثت بين المسلمين
وقد استأنف المسلمون فتوحاتهم بعد اجتماع شملهم علي معاوية بن أبى سفيان وتوحدهم تحت رايته في عام الجماعة سنة 41ه، وحقق الأمويون أعظم إنجازاتهم علي الإطلاق في ذلك الميدان العظيم، وامتدت فتوحاتهم إلي مناطق عديدة في قارات العالم القديم آسيا - إفريقيا - أوربا ففتحوا في عهد الوليد بن عبد الملك بلاد ما وراء النهر آسيا الوسطى وإقليم السند في شبه القارة الهندية، واستكملوا فتح الشمال الإفريقي كله من حدود مصر الغربية إلي المحيط الأطلسي، ثم عبروا مضيق جبل طارق إلي القارة الأوربية، ليفتحوا الأندلس، وجنوبي فرنسا، كما استولوا علي معظم الجزر في شرقي البحر المتوسط وشرقيه وجنوبيه، ثم واصلوا ضغطهم علي مدينة القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، وحاصروها أكثر من مرَّة
التيارات والأحزاب السياسية والدينية
شغلت الدولة الأموية في التاريخ الإسلامي إحدى وتسعين سنة 41 - 132ه، وامتدت حدودها من حدود الصين شرقًا إلي الأندلس غربًا، ومن بحر قزوين شمالا إلي المحيط الهندي جنوبًا، وعمل خلفاؤها في جد ومثابرة وحسن سياسة علي نشر الإسلام في تلك الرقعة الكبيرة، ونمت الحضارة الإسلامية ونهضت في عهدهم. وهذه الأعمال تشهد للأمويين بدورهم البارز في التاريخ الإسلامي، وتخفف كثيرًا من النقد الذي وجه إليهم، ومما يزيد المرء إعجابًا وتقديرًا لإنجازهم أنهم قاموا بتلك الأعمال الجليلة، وهم يصارعون أعداء أشداء من تيارات وأحزاب سياسية ودينية، لم يتركوا فرصة للثورة عليهم إلا انتهزوها. من تلك الأحزاب من تذرَّع بالدين يحارب به، ويتَّهم بنى أمية بالخروج علي الدين وقواعده، وأنهم مغتصبون للسلطة، كالخوارج والشيعة. وهناك شخصيات أعلنت التمرد والثورة علي بنى أمية لأهداف شخصية، ولتحقيق طموحات ذاتية، والوصول إلي الحكم بأي ثمن، مثل المختار بن أبى عبيد الثقفي، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ويزيد بن المهلب
الخوارج
كان الخوارج من أنصار علي بن أبى طالب، وشهدوا معه معركتي الجمل وصفين، ثم انشقوا عليه لما قبل التحكيم بينه وبين معاوية، فسمَوا الخوارج، لخروجهم علي إمامهم، ولما بالغوا وتطرَّفوا في عدائهم له، وعاثوا في الأرض فسادًا، اضطر إلي مقاتلتهم في معركة النهروان، ثم عادوا بنى أمية ودخلوا في صراع طويل معهم. وكانوا في مبدأ أمرهم فرقة واحدة، يدور خلافهم مع بقية الأمة حول الخلافة ومَن أحق بها، ومجمل أمرهم أن الخلافة حق لمن يصلح لها من المسلمين، وتتوافر فيه شروطها من العلم والأمانة والشجاعة، وليس من الضروري أن يكون عربيا فضلا عن أن يكون قرشيا. ولو أنهم حصروا خلافهم مع غيرهم في جدل وحوار نظري يقوم علي مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل لما كان في الأمر شيء ولكن الخطر كل الخطر جاء من لجوئهم إلي العنف واستخدام السيف في فرض آرائهم، وقد بدأ مع علي بن أبى طالب مما جعل خصومهم يواجهون القوة بالقوة، وتكبَّدت الأمة الإسلامية عشرات الآلاف من الضحايا من أبنائها نتيجة هذه الخصومة العنيفة. وظل الخوارج فرقة واحدة، تتبنَّى أفكارًا ومبادئ واحدة حتى وفاة يزيد بن معاوية سنة 64ه، ثم بدأ الشقاق والخلاف يدب بينهم هم أنفسهم، فانقسموا فرقًا وأحزابًا، حتى وصل عددهم إلي ثلاثين فرقة، ثم تطور تفكيرهم بمرور الزمن، وبدءوا يخوضون في قضايا تدخل في صلب الدين، مثل مباحثهم في مرتكب الكبيرة هل مؤمن أو كافر، وغير ذلك من القضايا، وأشهر فرق الخوارج التي ناصبت الدولة الأموية العداء وشنت عليها الحرب، هي
الأزارقة
هم أتباع نافع بن الأزرق، أحد زعماء الخوارج الكبار، وهي تعد أشد فرق الخوارج تطرفًا في أفكارها السياسية والدينية، فهي ترى الخروج علي الخليفة الذي يخالفها في آرائها وقتاله، وأتباعها يتبرءون ممن لا يوافقهم علي ذلك، ويَعدُّونهم من القاعدين، ويكفرون مرتكب الذنوب الكبيرة ويحكمون بخلوده في النار، مخالفين في ذلك صريح القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالي: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء: من 48. ويبيحون دماء مخالفيهم في الرأي
النجدات
وينسبون إلي نجدة بن عامر، وهم أقل تطرفًا من الأزارقة؛ لأنهم لا يقولون بكفر مرتكب الكبائر
البيهسية
وينسبون إلي زعيمهم بيهس، وهم أقل تطرفًا من الأزارقة، و يرون أن مخالفيهم في الرأي منافقون، تجرى عليهم أحكام المنافقين، لكنهم يجيزون حوارهم، والتزاوج معهم، وميراثهم
الصفرية
أتباع زياد بن الأصفر، وهم كذلك أقل تطرفًا من الأزارقة، ومعتدلون في أفكارهم
الشيعة
تعنى كلمة الشيعة: الأهل والأتباع والأنصار، كما في قوله - تعالي، في معرض حديثه عن موسى، عليه السلام -: فاستغاثه الذي من شيعته علي الذي من عدوه . القصص: من 15
و كل قوم اجتمعوا علي أمر فهم شيعة، بعضهم لبعض، غير أن هذه الكلمة أصبحت علمًا علي أنصار علي بن أبى طالب -رضى الله عنه - وذريته من بعده، فإذا قيل: إن فلانًا من الشيعة، عُرف أنه منهم، أو قيل: في مذهب الشيعة كذا، أي: عندهم
وقد نشأ التشيع بسيطًا في أول الأمر ثم تطور بمضي الزمن، وأصبح مذهبًا دينيا وسياسيا، كما كان أتباعه فرقة واحدة، شأنهم في ذلك شأن الخوارج، ثم لم يلبثوا أن تفرعوا إلي فرق، مثل الإمامية الاثنا عشرية، والزيدية والإسماعيلية. ويخالف رأي الشيعة في الخلافة جمهور الأمة الإسلامية التي ترى أن الخلافة أمر من الأمور العامة، يفوض للأمة أمر البت في شأنها، وتختار من تراه الأصلح لدينها ودنياها لتولي منصب الخلافة. أمَّا هم فيرون أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلي الأمة، بل هي ركن من أركان الإسلام، لا يجوز للنبي صلي الله عليه وسلم إغفاله، ولا تفويض الأمة فيه، بل يجب عليه تعيين الإمام للأمة بعده، وأن الإمام لابد أن يكون معصومًا من الكبائر والصغائر، ويزعمون أن النبي صلي الله عليه وسلم فعل ذلك، وعيَّن علي بن أبى طالب، وقد تعددت ثوراتهم المسلحة ضد الدولة الأموية طلبًا للخلافة
انتشار الإسلام في العصر الأموي
امتدت الفتوحات الإسلامية من حدود الصين إلي الأندلس، ومن بحر قزوين إلي المحيط الهندي، وأدخلت في الدولة الإسلامية شعوبًا كثيرة، مختلفة في الديانات والمذاهب واللغات والأجناس والثقافات والعادات والتقاليد، ولم تكن تلك الفتوحات غزوا عسكريا مستغلا للشعوب ناهبًا لثرواتها، وإنما كان فتحًا دينيا وثقافيا ولغويا، فانتشر الإسلام في البلاد المفتوحة بخطى حثيثة، وتغيرت أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية
ويمكن القول: إن هذا العالم الفسيح أصبح عالمًا إسلاميا واحدًا، فسيادة المسلمين عليه لا تنازع، والإسلام هو الدين الغالب في سماحة ورحمة، والحاكم في عدل، ولم تأخذ المسلمين نشوة النصر والغلبة، التي قد تحملهم علي الكبر والتعالي وإذلال الشعوب المغلوبة، بل عاملوهم معاملة كريمة، وصانوا أرواحهم وأموالهم وعقائدهم، وحفظوا عهودهم ومواثيقهم معهم، ووفوا بها في صدق وإخلاص، وأشركوا أبناءهم في حكم بلادهم وإدارتها
عوامل انتشار الإسلام
أولا عالمية الإسلام
لا جدال في أن الإسلام دين عالمي، ورسالته للجنس البشرى كله؛ لقوله تعالي مخاطبًا نبيَّه صلي الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا. النبأ: 28. وقال تعالي: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا الأعراف: 158. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: {إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؛ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين صحيح البخاري
وليس معنى عالمية الإسلام أن يُنشَر بالقوة وبحد السيف، كما يزعم أعداء الإسلام، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر النبي صلي الله عليه وسلم
ثانيًا: التسامح
تعامل المسلمون الفاتحون مع أبناء الشعوب المفتوحة بتسامح ورحمة، وقد شهد بذلك غير المسلمين، فيقول جوستاف لوبون: لم يعرف التاريخ فاتحًا أرضى من العرب. وليس أدل علي وجود هذه السياسة المتسامحة من رد أبى عبيدة بن الجراح الجزية التي أخذها من أهل حمص إليهم، حين اضطر إلي الانسحاب من حمص للدفاع عن دمشق، ولما سألوه في دهشة عن سبب ذلك، قال لهم إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه بلغنا ما جُمِع لنا من الجموع - يقصد الروم الذين تجمَّعوا للهجوم علي دمشق- وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنَّ لا نقدر على ذلك، فرددنا عليكم ما أخذنا منكم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا لحاكمنا فيه من الظلم والغشم -يقصدون الحكم البيزنطي- وردَّكم الله إلينا سالمين، والله لو كانوا هم ما ردُّوا علينا شيئًا
ثالثًا: إشراك أبناء البلاد المفتوحة في إدارة بلادهم
أدرك المسلمون أن سير الأمور في البلاد المفتوحة سيرًا حسنًا، وتحقيق مصالح أهلها يكمُن في الأسلوب الإداري الذي سيتبعونه في إدارة البلاد، ومن ثم لم يترددوا في الاحتفاظ بالنظم الإدارية التي وجدوها في البلاد سواء التي كانت تابعة للدولة البيزنطية مثل مصر والشام وشمالي، إفريقيا، أو التي كانت تابعة للفرس، مثل العراق وبلاد فارس نفسها، ولم يكتفُ بذلك، بل طوروا من النظم ما يرونه ضروريا، ليتفق مع دينهم ونظامهم السياسي والاجتماعي القائم علي أسس من الشريعة الإسلامية، وما يحقق الصالح العام للدولة وللأمة
وكان عمر بن الخطاب هو أول من سنَّ هذه السنة، فاقتبس نظام الدواوين، الذي يشبه نظام الوزارات في الدولة الحديثة من النظم الفارسية والبيزنطية، ولم يجد غضاضة في ذلك. ولم يقف المسلمون عند حد الاستفادة من النظم الإدارية التي وجدوها في البلاد المفتوحة، بل أبقوا أيضًا علي الجهاز الإداري الذي يسيِّر العمل، واحتفظوا لأنفسهم بالمناصب العليا كالإمارة، وقيادة الجيش والقضاء والشرطة. وإزاء هذه السياسة كان المجال رحبًا أمام أبناء البلاد المفتوحة الذين لم يعتنقوا الإسلام للوصول إلي المناصب العليا في الجهاز الإداري، التي كانوا محرومين من توليها في ظل الحكومات السابقة علي الفتح الإسلامي، علي حين كان الطريق مفتوحًا لمن يسلم منهم للوصول إلي مناصب الإمارة أو قيادة الجيوش، مثل طارق بن زياد الذي كان من أصل بربري، لكنه صار من كبار الفاتحين، وفي ذلك يقول أحد الباحثين: إن روح الإسلام الحقَّة هي التي حفَّزت العرب إلي اتباع سياسة التسامح الديني نحو المصريين أي أن الأقباط أصبحوا يتمتعون بحرية تامة في الدين، كما أصبح لهم نصيب كبير في إدارة بلادهم ولم يقتصر القبط علي الأعمال الإدارية الصغيرة، بل شقوا طريقهم إلي أعمال لها خطورتها، ففي ولاية عبد العزيز بن مروان علي مصر 65 - 85ه كان هناك كاتبان قبطيان لإدارة مصر، واحد لمصر العليا - الصعيد - والآخر لمصر السفلي- الدلتا - بل أكثر من ذلك فقد تولي ولاية الصعيد والٍ قبطي اسمه بطرس كما كان حاكم مريوط قبطيا اسمه تاوناس. ولم يحدث هذا في مصر وحدها بل كان ذلك في البلاد المفتوحة كلها، ففي الشام - مقر الدولة الأموية - بقى أهم الدواوين وأخطرها، وهو ديوان الخراج - الذي يمثل وزارة المالية في الوقت الحاضر - في أيدي المسيحيين من أسرة سرجيوس الرومي
ونتيجة لهذه السياسة شعر أهل الذمة - اليهود والنصارى - بالأمان والاطمئنان، فأقبلوا علي اعتناق الإسلام في حرية تامة ودون إكراه
رابعا: الأوضاع الدينية في البلاد المفتوحة
أقبل كثير من أبناء البلاد المفتوحة علي اعتناق الإسلام لبساطته وملاءمته للفطرة الإنسانية، ولعدم اقتناعهم بالأديان التي كانت سائدة في بلادهم، ومعظمها كانت ديانات وضعية وثنية كالزرادشتية، والبوذية، والمانوية والمزدكية، حتى اليهودية والنصرانية دخلها الزيف والتحريف والتعقيد، وأصبحت كل منهما تستعصي علي الفهم. يقول أحد الباحثين المسيحيين: ومن المرجح أن تأثير المسيحية في السواد الأعظم من شعب مصر كان قليلا في القرن السابع - عند الفتح الإسلامي لها- وأن التعليقات النظرية التي استغلها زعماؤهم في إثارة شعور الكراهية والمقاومة في وجه الحكومة البيزنطية، كان يمكن أن يدركها عدد قليل جدا من الناس، كما أن سرعة انتشار الإسلام قد تكون راجعة إلي عجز ديانة كالديانة المسيحية، وعدم صلاحيتها للبقاء، أكثر من أن تكون راجعة إلي الجهود الظاهرة التي قام بها الفاتحون لجذب الآهلين إلي الإسلام
خامسًا: أثر سياسة الدولة الأموية في انتشار الإسلام
حافظ الأمويون علي روح التسامح الإسلامي في سياستهم للبلاد المفتوحة إلي حد كبير، فالتزموا بنصوص المعاهدات وروحها التي أعطيت لأهالي تلك البلاد، فلم ينكثوا عهدًا أو ينقضوا معاهدة، وإذا حدث شيء من هذا فإن الدولة تسارع بتصحيح الخطأ، ولم تذكر المصادر التاريخية سوى حدث واحد من هذا القبيل وقع في العصر الأموي، حين نقض قتيبة بن مسلم عهده مع أهل سمرقند، وكان قد دخل مدينتهم بناءً علي اتفاق معهم علي أن يخرج منها بعد أن يبنى فيها مسجدًا، لكنه لم يخرج منها ناقضًا اتفاقه معهم، فشكوا إلي عمر بن عبد العزيز، فأمر الوالي بأن يحقق في المسألة بإنصاف، فحكم القاضي المسلم بإخراج المسلمين من سمرقند، وأن ينابزوا أهلها علي سواء، فكرهوا القتال، وأقروا المسلمين علي البقاء فيها، وأسعدهم هذا المسلك من الحكومة الإسلامية التي لم تفرق بين المسلم وغير المسلم في العدل، فأقبلوا علي اعتناق الإسلام
انتشار الإسلام في الشام
كان معظم سكان الشام عند الفتح الإسلامي من العرب الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بعدة قرون، وأقاموا هناك ممالك وإمارات، وإلي جانب هؤلاء كانت هناك أقليات من اليهود والأرمن المسيحيين، والروم، والأكراد. وقد وقف عرب الشام في بداية الفتوحات الإسلامية في عهد الراشدين مع الروم ضد أبناء عمومتهم العرب الفاتحين، ظنا منهم أنهم جاءوا إلي الشام لمزاحمتهم فيه، وأخذ أرضهم وأموالهم، لكنهم حين فطنوا إلي أهداف المسلمين الرفيعة ورسالتهم السامية، القائمة علي العدل والحرية والمساواة، اطمأنت نفوسهم إلي الإسلام، وأَنسوا إلي جانب المسلمين، وبخاصة بعد انتهاء المعارك ووضوح نتائجها، وزوال سلطان الروم عنهم. وقد أدَّى ذلك إلي مشاركة عرب الشام عربَ الجزيرة في عقيدتهم ومثلهم وتطلعهم للحياة، وبخاصة أنهم وجدوا أبواب العمل في الدولة الإسلامية مفتوحة أمامهم، فمن أسلم أصبح منهم، وربما تدفعه مواهبه إلي الصفوف الأولي مع كبار القادة العظام، مثل حسان بن النعمان الذي كان ينتمي إلي الأسرة الحاكمة في الشام عند الفتح الإسلامي، ومن بقى علي مسيحيته شارك في ميادين العمل الإداري والمالي
وكان نشر الإسلام في الشام موضع عناية المسلمين وهدفهم، منذ الخطوات الأولي للفتح، فقد أرسل يزيد بن أبى سفيان إلي عمر بن الخطاب يطلب معلمين من الصحابة، يعلمون الناس شرائع الإسلام ويقرئونهم القرآن، فبعث إليه عددًا من كبار الصحابة، منهم: عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، رضى الله عنهم، وبدأت القبائل العربية التي كانت تقطن الشام قبل الفتح الإسلامي تقبل علي الإسلام عن اختيار وفي حرية تامة، فأسلمت أغلبية قبيلة الغساسنة كبرى القبائل العربية في الشام، وكانت لها دولة تبسط سلطانها علي جنوبي سوريا، وشرقي الأردن، وكذا قبائل لخم وجذام وكلب
ولم يقتصر الدخول في الإسلام علي القبائل العربية بل اعتنق الإسلامَ كثيرٌ من المسيحيين غير العرب؛ كالأرمن والروم، لما فيه من بساطة وسماحة، بالقياس إلي المسيحية التي تحولت إلي طلاسم وألغاز وجدل عقيم. ويذكر توماس آرنولد أن انتشار الإسلام بين نصارى الكنائس الشرقية كان نتيجة شعور بالاستياء من السفسطة المذهبية التي جلبتها الروح الهللينية إلي اللاهو ت المسيحي، لأنها أحالت تعاليم المسيح - عليه السلام - البسيطة السامية إلي عقيدة محفوفة بمذاهب عويصة، مليئة بالشكوك والشبهات، فأدى ذلك إلي خلق شعور من اليأس، بل زعزع أصول العقيدة الدينية ذاتها، فلما أهلَّت آخر الأمر أنباء الوحي الجديد فجأة من الصحراء، لم تعد تلك المسيحية الشرقية التي اختلطت بالغش والزيف، وتمزَّقت بفعل الانقسامات الداخلية، قادرة علي مقاومة إغراء الدين الجديد - الإسلام - الذي بدَّد بضربة واحدة من ضارباته كل الشكوك التافهة، وقدَّم مزايا مادية جديدة إلي جانب مبادئه الواضحة البسيطة التي لا تقبل الجدل، وحينئذٍ ترك الشرق المسيح، وارتمى في أحضان نبي بلاد العرب. وكان من الطبيعي أن يكون حجم انتشار الإسلام في الشام كبيرًا، لقربه من الحجاز منزل الوحي، ووفود كثير من الصحابة إليه في الفتوحات وبعدها، وإقامتهم فيه، وإقامة كثير من أفراد جيوش الفتح الوافدة من الجزيرة العربية في الشام
ولما قامت الدولة الأموية سنة 41ه واتخذت من دمشق عاصمة لها، اتسع نطاق انتشار الإسلام بين القبائل العربية، وأصبح الشام قطرًا عربيا إسلاميا خالصًا، يعيش فيه بعض الأقليات المسيحية واليهودية في حرية وأمان
انتشار الإسلام في مصر
فُتحت مصر في عهد عمر بن الخطاب، ومنذ الأيام الأولي للفتح أقبل بعض المسيحيين علي الدخول في الإسلام بحرية تامة وحتى قبل تمام الفتح، فقد كتب يوحنا النقيوسي - وهو رجل دين مسيحي كان قريبًا من حوادث الفتح أن بعض المصريين تركوا الدين المسيحي وأسلموا، وصحبوا جيوش العرب أثناء الفتح، كان منهم يوحنا أحد رهبان دير سيناء. واستمرت حركة الدخول في الإسلام في زيادة مطردة، فدخل علي عهد الخليفة هشام بن عبد الملك أربعة وعشرون ألفًا منهم الإسلام دفعة واحدة سنة 108ه ولم يكن دخول الإسلام مقصورًا علي طبقة بعينها، بل دخل فيه ناس من كل الطبقات، كما اعتنقه كثير من الروم الذين بقوا في مصر بعد الفتح الإسلامي. وباستمرار دخول المسيحيين في مصر في الإسلام أصبح أغلبية السكان مسلمين، وتعلموا اللغة العربية، وأصبحت مصر بلدًا عربيا إسلاميا، وبقى بعض الأقباط علي دينهم حتى الآن، وهذا دليل سماحة الإسلام، وآية علي أن من اعتنق الإسلام منهم اعتنقه عن رضى واقتناع ودون إكراه، فلو أكره الفاتحون المسلمون الأقباط علي ترك دينهم والدخول في الإسلام؛ لما بقى مسيحي واحد في مصر. وكان دور المسلمين في جذب المسيحيين وغيرهم دور الداعي إلي دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، والقدوة الطيبة، بالإضافة إلي جو الحرية وسريان روح الرحمة والتسامح الذي أشاعه الخلفاء والحكام والأمراء، ولم يعد المسلمون أنفسهم طبقة متميزة علي أهل البلاد، وإنما اختلطوا بهم وتعايشوا معهم وصاهروهم، وعاملوهم بتقدير واحترام، خاصة أن النبي أوصى المسلمين خيرًا بأهل مصر حين يفتحونها، فإن لهم ذمة ورحمًا، فهاجر أم إسماعيل عليه السلام منهم، وكذلك مارية القبطية التي تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم وأنجب منها إبراهيم
انتشار الإسلام في شمالي إفريقيا
تشمل منطقة شمالي إفريقيا المنطقة التي تمتد من حدود مصر العربية حتى شاطئ المحيط الأطلنطي، وهي من أكثر المناطق التي أرهقت المسلمين في فتحها، الذي استغرق نحو سبعين سنة، وذلك بسبب المقاومة العنيدة التي لقيها المسلمون من سكان البلاد، ومعظمهم من البربر الذين يعتزون بحريتهم وكرامتهم. وكانت مقاومتهم الشديدة للفتح ترجع إلي جهلهم بطبيعة الإسلام وأهدافه ومبادئه، وظنهم أن الفاتحين كغيرهم من الغزاة، جاءوا لاستغلال بلادهم والاستيلاء علي خيراتها، فلما فهموا الإسلام وما يحمله من عزة وكرامة، واحتكوا بالفاتحين المسلمين وسماحتهم ورحمتهم أقبلوا علي الإسلام بحماس لا نظير له، وحملوا رايته، وجاهدوا في سبيله، وشاركوا في فتوحاته، فكان لهم في فتح الأندلس بلاءٌ حسن. وعلي الرغم من طول أمد فتح شمالي إفريقيا؛ بسبب المقاومة العنيدة التي أبداها السكان فإن استجابتهم للإسلام واعتناقهم له كان أسرع وأوسع انتشارًا مما حدث في بلاد المشرق الأسبق فتحًا مثل العراق والشام ومصر وقد بدأ السكان يقبلون علي الإسلام منذ فتح عمرو بن العاص برقة في عهد عمر بن الخطاب، وظل هؤلاء متمسكين بإسلامهم علي الرغم من توقف الفتوحات فترة طويلة؛ بسبب الفتن الداخلية في الدولة، بدليل وجود كثير من أهل البلاد في جيش عقبة بن نافع، عندما أسند إليه معاوية قيادة جيش الفتح في شمالي إفريقيا، كما أسلم علي يدي عقبة في تلك الفترة أعداد كبيرة. ثم خطا الإسلام في المغرب خطوات واسعة، وسعى سعياً حثيثًا في عهد أبى المهاجر دينار؛ لحسن سياسته التي جذبت ملك البربر كسيلة إلي الإسلام، وأسلم بإسلامه أعداد هائلة، وكان أبو المهاجر يبنى مسجدًا في كل مدينة يفتحها، ويعمل علي امتزاج العرب الفاتحين بأهالي البلاد؛ ليكون لذلك أثره في تعليمهم الدين واللغة العربية. ثم كان ظهور حسان بن النعمان ومن بعده موسى بن نصير في شماليّ إفريقيا من عوامل التمكين للإسلام في البلاد؛ فاستطاع حسان أن يقضى علي الوجود البيزنطي قضاءً تاما، ثم علي مقاومة الكاهنة التي تزعمت البلاد بعد مقتل كسيلة. والعجيب أن هذه المرأة العنيدة وهي تخوض معركتها الأخيرة مع حسان، أوصت أبناءها بالانضمام إليه واعتناق الإسلام إن هي هزمت في الحرب، فلما حدث ذلك أسلم أبناؤها، وعيَّنهم حسَّان أمراء علي قبائلهم، وأسلم بإسلامهم اثنا عشر ألف رجل دفعة واحدة. وأمَّا موسى بن نصير فقد ركز اهتمامه علي نشر الإسلام بين السكان، وكان يأمر جنده العرب بتعليم البربر المسلمين في جيشه القرآن الكريم، وتفقيههم في الدين، كما ترك بين قبائل المصامدة سبعة عشر رجلا من العرب ليقوموا بالغرض نفسه. وكان لعمر بن عبد العزيز أثر كبير في نشر الإسلام بالمغرب، فقد أرسل عشرة رجال من الصالحين التابعين إلي هناك، ليعلموا الناس الدين، فتوافد عليهم الناس من أنحاء البلاد كلها، ليتلقوا عنهم أمور دينهم
ومن المعروف أن المسيحية قد دخلت شمالي إفريقيا منذ القرون الأولي لميلاد السيد المسيح، عليه السلام، وبخاصة في منطقة الساحل المطلة علي البحر المتوسط في حين بقيت المناطق الداخلية البعيدة عن الساحل علي وثنيتها
انتشار الإسلام في الأندلس
لمَّا فتح المسلمون الأندلس في أواخر القرن الهجري الأول 92 - 95ه كانت ديانة معظم السكان هي المسيحية الكاثوليكية، بالإضافة إلي جالية يهو دية كبيرة وبعض الوثنيين، ثم بدأت أعداد كبيرة منهم تعتنق الإسلام، يأتي في مقدمتهم طبقة الرقيق التي وجدت في الإسلام نجاتها وخلاصها من الظلم والاضطهاد الذي كانت تعانيه تحت حكم القوط
ولم تكن طبقة الرقيق وحدها هي التي أسرعت إلي اعتناق الإسلام، بل اعتنقه كثير من الوثنيين وأشراف المسيحيين، بالإضافة إلي أعداد كبيرة من الطبقات الوسطى والدنيا، بل إن بعض القساوسة اعتنق الإسلام، مثل تيود سكلوس الذي كان رئيس أساقفة إشبيلية
وقد حدث ذلك كله في السنوات الأولي، التي أعقبت الفتح الإسلامي مباشرة، دون إكراه من المسلمين لإجبار أهل الأندلس وحملهم علي الإسلام حملا، بل أقبلوا عليه عن رضى واقتناع تام، ساعد علي ذلك بساطة الإسلام وبعده عن التعقيدات الكهنوتية التي حفلت بها ديانتهم، واختلاط المسلمين الفاتحين بأهل البلاد ومصاهرتهم، و قد فعل ذلك أعداد كبيرة من المسلمين، حتى الأمراء منهم، فقد تزوج عبد العزيز بن موسى بن نصير بابنة الملك القوطى رذريق، وحذا حذوه كثير من القادة والجنود،ونتج عن هذه المصاهرات جيل جديد في الأندلس عُرف بالمولدين، وهم الذين ولدوا من آباء عرب وأمهات أندلسيات، وهؤلاء نشئوا مسلمين بطبيعة الحال، وسرعان ما تزايد عددهم، وأصبحوا يشكلون غالبية السكان، واحتلوا مكانة كبيرة في المجتمع وكان لهم دورهم في تسيير أمور الدولة الإسلامية
و قد أصبح هذا الجزء الذي يقع في جنوبي غربي أوربا بلدًا عربيا
مسلمًا في حرية تامة ودون تعصب أو إكراه، ولم يستغل الفاتحون المسلمون انتصارهم علي القوط في استئصال المسيحية من البلاد كما فعل فردينان
و إيزابيلا في استئصال المسلمين بعد ذلك بثمانية قرون
انتشار الإسلام في العراق
كان معظم سكان العراق عند الفتح الإسلامي عربًا من قبائل ربيعة، مثل: بكر بن وائل وتغلب،ثم جاء المناذرة اللخميون ومن هم من قبائل اليمن، فأقاموا في العراق إمارة عربية عُرفَت بإمارة المناذرة، كانت خاضعة للفرس، تأتمر بأمرهم، وتصد غارات القبائل العربية عليهم، وهجمات البيزنطيين وحلفائهم غساسنة الشام، و قبيل ظهور الإسلام أنهى الفرس سنة 602م حكم المناذرة، وحكموا العراق حكمًا مباشرًا
ولم يكن موقف عرب العراق من الفاتحين المسلمين عدائيا صريحًا، وإنما تراوح بين العداء والوقوف مع الفرس وتأييدهم وبين التعاون مع العرب الفاتحين، ثم الترحيب بهم بعد توالي انتصاراتهم علي الفرس في القادسية ونهاوند
وقد وجد سكان العراق أنفسهم بعد الفتح تحت حكم المسلمين يعاملون معاملة حسنة، تُحفظ لهم كرامتهم وحريتهم، وتصان عقائدهم، ولم تنتزع أرضهم، ولم يجبرهم أحد علي الدخول في الإسلام، وكانوا قبل ذلك أقرب ما يكونون إلي حال الرق، ذلا واستعبادًا للفرس، فأقبلوا علي اعتناق الإسلام في حرية تامة
ولم يسلم عرب العراق فقط، بل أسلم كثير من الفرس أنفسهم، الذي يعيشون في العراق، وقدموا للمسلمين مساعدات كثيرة، ووقفوا إلي جانبهم في المعارك، فاستشار سعد بن أبى وقاص من أسلم من الفرس في كيفية التغلب علي الفيلة الفارسية المدربة علي الحرب و القتال، ولم تكن للفاتحين المسلمين خبرة بمواجهتها في ساحات المعارك، فدلوه علي مقاتلها، بأن تُضرب في عيونها ومشافرها، فلا تستطيع القتال بعد ذلك. ثم ازداد إقبال الفرس علي الدخول في الإسلام بعد انتصار المسلمين في القادسية، فأسلم أربعة آلاف من الديلم دفعة واحدة، وجاهدوا مع الفاتحين في نهاوند، و يدل تزايد الإقبال علي الدخول في الإسلام، سواء من العرب أومن غيرهم علي أن اشتراك الطبقات المقهورة مع الفرس ضد المسلمين في البداية، إنما كان خوفًا من بطشهم، فلما تحطمت قوتهم في القادسية زال الخوف، وأقبل الناس علي الإسلام وإلي جانب هؤلاء أسلمت أعداد كبيرة من الأساورة والأشراف وعلية القوم، فرحَّب بهم القادة العرب، وأشركوهم معهم في الحكم، فيروى الطبري أن سعد بن أبى وقَّاص كتب إلي عبد الله بن المعتم أن أخلف علي الموصل مسلم بن عبد الله الذي كان قد أُسِرَ في القادسية، وأن القعقاع بن عمرو التميمى استخلف علي حلوان - مدينة فارسية شمالي شرقي المدائن- بعد فتحها، رجلا فارسيا اسمه قباذ. وقد أخذ الإسلام ينتشر في العراق باطِّراد إلي أن أصبح بلدًا عربيا إسلاميا خالصًا في العصر الأموي، ومركزًا ودعامة لتثبيت الحكم الإسلامي في بلاد فارس، ومنطلقًا للفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر والسند
انتشار الإسلام في بلاد فارس
كانت الديانة الرئيسية في بلاد فارس قبل الفتح الإسلامي هي الديانة الزرادشتية، وهي ديانة وثنية، تؤمن بأن للعالم إلهين، أحدهما إله الخير، والآخر إله الشر، وإلي جانب تلك الديانة التي كان يدين بها ملوك آل ساسان توجد البوذية والمانوية والمزدكية بالإضافة إلي اليهودية والمسيحية علي نطاق ضيق. ولم يأخذ المسلمون من هذه الأديان موقفًا عدائيا، ولم يتخذوا إجراءً ضدها، بل صانوا للناس حرية الاعتقاد، إلي الحد الذي اعتدُّوا فيه بالمجوسية الفارسية وهي عبادة النار، وعاملوا أتباعها معاملة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقبلوا منهم الجزية نظير بقائهم علي دينهم
ولما اطمأنت نفوس أهل فارس أو معظمهم إلي حكم الفاتحين نظروا إلي دينهم، مقارنين بينه وبين ما لديهم من أديان فلم يجدوا وجهًا للمقارنة، فكلها أديان وثنية مليئة بالخرافات والأوهام، فتركوها غير آسفين، وأقبلوا علي الإسلام في حرية تامة، ودون ضغط أو إكراه، و لم يفعل ذلك أتباع الديانات الوثنية فقط، وإنما فعله كثير من المسيحيين. يقول آرنولد: وقد أدَّى تغير الحكومة - الساسانية - إلي تخليص الكنيسة المسيحية المضطربة في فارس من استبداد ملوك الساسانيين الذين أثاروا الخلافات وزادوا في فوضى الطوائف - المسيحية - المتنافرة، ولعل هذه الأحوال المضطربة قد هيأت عقول الناس لذلك التحول الفجائي في شعورهم، الذي سهل تغيير العقيدة، و إلي جانب الاضطراب السياسي في الدولة ظهرت تلك الفوضى الأخلاقية التي ملأت عقول المسيحيين.. فمالوا إلي هذا النظام العجيب من التنسيق العقلي، الذي ينمو فيه الدين الجديد في سهولة ويسر، ويكتسح أمامه أكثر الأديان الأخرى، ويحاول أن يقيم الحالة الدينية و الاجتماعية علي أسس جديدة، وبعبارة أخرى كان أهل فارس قد بلغت عقليتهم درجة ساعدتهم علي التحول إلي ذلك الدين الجديد، و الترحيب باعتناقه في حماسة ملحوظة؛ لما يمتاز به من البساطة، و هكذا قدر للإسلام أن يبدد بضربة واحدة كل هذه الغيوم، وأن يفتح أمام الناس سبلا واضحة من الآمال الكبيرة، وأن يخلصهم في أقرب وقت من عبوديتهم وحالتهم السيئة و قد تتابع دخول الفرس بأعداد كبيرة في الإسلام دون إكراه، مدفوعين بالدعوة الصادقة التي يقوم بها المسلمون لدينهم، و التعريف به وشرح مبادئه، والالتزام بها في حياتهم، كل ذلك كان له عظيم الأثر في التمكين للإسلام في البلاد. ثم خطا الأمويون خطوات واسعة أدَّت إلي انتشار الإسلام واللغة العربية في بلاد فارس، تمثلت في تهجير عشرات من القبائل العربية إلي الأقاليم الفارسية وتسكينهم فيها، فنقل زياد بن أبى سفيان و الي العراق في خلافة معاوية سنة 51ه خمسين ألف أسرة عربية من أهل البصرة والكوفة إلي خراسان دفعة واحدة، وتتابعت بعد ذلك الهجرات العربية إلي الأقاليم الفارسية بأعداد كبيرة؛ مما كان له أثر كبير في نشر الإسلام عن طريق المعايشة، و القدوة العملية، وإقامة شعائر الدين. وفي الوقت نفسه هاجرت أعداد كبيرة من الفرس إلي المدن العربية الجديدة كالبصرة والكوفة، بقصد العمل في التجارة والأعمال الحرفية، كأعمال البناء التي لا يجيدها العرب، كما عمل كثيرون منهم في دواوين الدولة، وقد بلغ عدد العمال من الفرس - أي الموظفين - المقيدين في ديوان عبيد الله بن زياد والي البصرة 55 64ه مائة وأربعين ألفًا، وهو رقم غير مبالغ فيه، لأن ديوان البصرة كان يشمل الموظفين المدنيين في جنوبي العراق، وكل المقاطعات الجنوبية الشرقية من بلاد فارس حتى خراسان شمالا. وقد علل ابن زياد استخدام هذا العدد الكبير من الفرس في الديوان بكفاءتهم ومهارتهم وأمانتهم في العمل، وهذا يعنى ثقة الدولة بالموظفين من الفرس، وهذه الثقة شجعتهم علي الدخول في الإسلام. وأدَّى وجود أعداد كبيرة من الفرس في البيوت العربية، ومصاهرتهم للعرب، إلي انتشار الإسلام بينهم، واتخاذ أسماء وألقاب عربية
ويمكن إجمال القول بأن غالبية الشعب الفارسي تحولت إلي الإسلام في العصر الأموي، وأصبحت عنصرًا مؤثرًا في المجتمع والدولة الإسلامية ذاتها، وكانت في طليعة المجاهدين في فتح بلاد ما وراء النهر
موقف الموالي الفرس من الدولة الأموية
كان لبعض الموالي الفرس مواقف عدائية ضد الدولة الأموية، علي الرغم من تسامح الحكومة مع الفرس وإشراكهم في الإدارة، بل تفضيلهم أحيانًا علي العرب أنفسهم؛ فلم يتركوا فرصة للخروج عليها إلا انتهزوها، ولا دعوة لثائر إلا انضموا تحت لوائه، أيا كان اتجاهه السياسي، فانضموا إلي ابن الزبير، والمختار الثقفي، وعبد الرحمن بن الأشعث، ويزيد بن المهلب، وغيرهم، وناصروا الخوارج، وتحالفوا مع الشيعة دائمًا. وهذه المواقف العدائية من الدولة الأموية جعلت بعض الباحثين يظنون أنهم فعلوا ذلك لظلم وقع عليهم من الدولة، وراحوا يكيلون التهم جزافًا للأمويين بأنهم متعصبون للعرب ضد الفرس، وهذا اتهام لا دليل عليه وبعيد عن واقع الأمر، فالدولة الأموية عُرفَت بتسامحها مع غير المسلمين من أهل الذمة، فكيف يضيق صدرها بالمسلمين من الموالي ولعل السبب الرئيسي في عداء الموالي للدولة الأموية يكمن في أن كثيرين من أبناء فارس لم يستطيعوا التخلص تمامًا من ماضيهم، حيث كانوا أصحاب السيادة علي العرب، ولهم نفوذ في العالم، فلما فتح المسلمون بلادهم عزَّ عليهم أن يحكمهم العرب، فعملوا كل ما في وسعهم لتقويض الدولة الأموية. ولم يكن الموالي كلهم يعادون العرب، ولذا نستطيع أن نقسم الموالي إلي أربع طوائف رئيسية، هي
- الطائفة الأولي: أسلمت إسلامًا حقيقيا، ارتفع بها فوق العصبية القومية، مثل: سلمان الفارسي، رضي الله عنه، والحسن البصري التابعي المعروف، وهذه الطائفة لم تر بأسًا في أن يحكمها العرب، و نظرت إليهم نظرة تقدير واحترام؛ لأنهم سبب هدايتها، وبادل العرب هذه الطائفة ودا بود وتقديرًا بتقدير، وكان كبار التابعين من الموالي، مثل الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن يسار، وعطاء بن أبى رباح، موضع احترام المجتمع والدولة، وكان تأثيرهم في الحركة العلمية عظيمًا
- الطائفة الثانية: وهي التي أسلمت إسلامًا رقيقًا، ولم تتخلص من الماضي تمامًا، وظلت تفخر بالأمجاد الفارسية القديمة، وهذه الطائفة لم ترفض الإسلام دينًا ولكنها رفضت السيادة والحكم العربيين، وظلت تسعى للقضاء عليهما بدأب شديد، وكانت نواة الحركة الشعوبية التي نادت بتفضيل الفرس علي العرب
- الطائفة الثالثة: وهي التي أسلمت نفاقًا، لأنها رأت أن السبيل إلي المال والجاه والسلطان لا يكون إلا بالدخول في الإسلام، فأعلنت اعتناقه ولم يدخل الإيمان قلوبها، ولم تدع فرصة للكيد للعرب إلا انتهزتها، كما دعت إلي الشعوبية والمذاهب الدينية القديمة، وهذه الطائفة كانت أساسًا لحركة الزندقة
- الطائفة الرابعة: وهي التي لم تسلم، وبقيت علي مجوسيتها بفضل الحرية التي منحها العرب لأهل بلاد فارس. والذي نريد أن نخلص إليه أن القول باضطهاد الدولة الأموية للموالي، وعداء الموالي للدولة كان رد فعل لذلك، هو قول بعيد عن الحقيقة، فلم تكن هناك سياسة مرسومة للأمويين تعادى الموالي الفرس، وفي الوقت نفسه لا ننكر أن يكون بعض العرب قد نظر إلي الموالي الفرس نظرة تعالٍ وتكبر، لكن ذلك لم يكن سياسة دولة، وإنما